يقول لي أحدهم: لا أعلم لماذا حين أكون في أحد المباني العامة، وأمام ممرين يؤديان بي إلى نفس الوجهة المنشودة، فإنني في الغالب أسلك الممر الأطول مسافةً والأكثر استهلاكًا للوقت؛ فقط لأنه يُجنّبني احتمالات عديدة بإمكاني تخيُّلها، مدفوعًا بصوتٍ داخليّ يحثّني بغمزةٍ منه على هذا الاختيار. وعلى هذا النحو أجدني أيضًا ميَّالاً للإصغاء إلى الصوت الداخلي الذي دائمًا ما يَحُدّ مِن تدفُّقي -وبغمزة منه- في أغلب ردود أفعالي، مثل التخفيف من السخط لدرجة التظاهر بعدم الاهتمام! أو مثلاً ركوب المصعد رغم خوفي منه، وأهمية إحراق السعرات الذي يوفّره الدرج لي. بالإضافة إلى تمرير رسائل الجوال دون قناعة تامَّة بمحتواها، وغيرها الكثير من الخيارات التي تتكرَّر معي بأشكال ومستوياتٍ مختلفة، لكنها متشابهة باتخاذ معظمها في أجزاءٍ من الثانية، وبنفس طريقة الصوت الداخلي. انتهى كلامه لي، لكني ظللتُ أستمع إلى صمته لبرهة، فإذا بي أقول له: من وجهة نظرٍ لا أكثر، وبتشبيهٍ عصريٍّ بسيط، فإنه يمكنني القول: إن هذا الصوت الداخلي هو بمثابة الإعدادات التي تم ضبط الشخص عليها! بقصدٍ أو بدون قصدٍ. وهو بكلماتٍ أخرى، عبارة عن محصِّلة لمجموعة أو تشكيلة من الاختيارات المفروضة على الشخص منذ ولادته، مِن قِبَل المحيطين بفطرته -إن جاز التعبير-، والتي صاغت التأثر والتفاعل ما بين الماضي والحاضر والبيئة والخصائص والأنساق؛ كأنها خوارزميات مُعدَّة سلفًا، لتُظْهِر الشخص في حالة مُركَّبة معقَّدة، كما هي شاشة الجوال التي ليس بالإمكان التحقُّق أكانت هي طرف بداية أم نهاية أم هي الاثنان معًا! كان جوابي له نابعًا من تجربة شخصيَّة مشابهة لما قاله لي، مع اختلاف الاختيارات والحالات طبعًا، إنما الصوت نفسه الذي دائمًا ما يَحُثّ على تفضيل ذاك عوضًا عن هذا! ويدفعني -على سبيل المثال- لعدم الوقوف في طابورٍ للحصول على شيءٍ ما أرغبه بشدة! أو بحالة أخرى، يمنعني من الدوران عكس الآخرين في المكان المخصَّص لممارسة المشي، رغم أنني أفكّر جدّيًّا بذلك. هذا إلى جانب الكثير من الحالات الأخرى المسبوقة بنفس الصوت الداخلي الذي لم ألحظه إلا بعد ما بدأتُ أراقب خياراتي بتمعنٍ، متسائلاً عن السبب وراء الميل نحو ذاك وترك هذا. يقينًا لم أتوصّل إلى جوابٍ ما، وبالتالي لا يمكنني معرفة إلى أيّ مدى تعكس اختياراتي عمق ذاتي الحقيقية. وما هو العفوي الطبيعي، والمزيف المشوب بسلطة النشأة منها؟ وهل أنا فعلاً كشاشة جوال مجرد مبتدأ ومنتهى لما ورائها؟ المسألة أعقد من ذلك بكثير، لكنني عوضًا عن الجواب الذي لم أتوصل إليه، وجدتُ نفسي -وبطريقة تلقائية- مشغولاً بمعاكسة هذا الصوت واختياراته التي يدفعني إليها بلمح البصر. وبدل الدوران مع الآخرين في الممشى، رحتُ أدور عكسهم، إلى جانب أنني أصبحت أحصل على بعض ما أرغبه مقابل الوقوف في الطابور مكرهًا. وليس ذلك فحسب، بل إن الأمر تجاوز هذا الحد إلى أن عاكستُ الصوت في معظم الخيارات التي لا أسباب حقيقية وعقلية ورائها -بالنسبة لي- مفضلاً هذا عوضًا عن ذاك. والآن، وبعد كل هذا، فإنه بإمكاني القول: إن الخيارات المعاكسة كانت صعبة بالنسبة إليَّ في البداية، لكن هذا لا يناقض كونها مثيرة، مما جعلها أكثر راحة أثناء عملية التكرار. علاوة على أن خاصية معاكسة الخيارات بدأت تتطور داخلي لدرجة أنها أصبحت تعمل باستقرار وآلية أكثر كلما مر وقت عليها، وكأنني -بالعودة إلى تشبيه الإعدادات- بصدد إعادة ترتيب الوضع الافتراضي (ضبط المصنع)، ولو أن هذا مجرد تشبيه ولا يمثل الحالة بدقة تامة، لكنَّ المهم هنا، وما يمكن استخلاصه، أن هذا التوجُّه -معاكسة الخيارات والخروج عن الوضع الافتراضي- يراكم شعورًا عميقًا نوعًا ما بعدم الاصطناعية التي تثقل معظم الاختيارات الأخرى؛ اختيارات الصوت إن كان بالإمكان تسميتها بذلك. لا أقول عاكس معظم خياراتك لتجد نفسك، رغم أن هذا القول قد ينطبق إلى حدٍّ ما على ما تم ذِكْره هنا من تجارب ذاتية ليس إلا. لكنني أقول باختصارٍ: أَعِدْ صياغة ومراجعة خياراتك ولو البسيطة منها؛ علّكَ تتخلص من دور (الروبوت) الذي أعطاه لكَ الآخرين منذ الصغر، ولا تبدّد الأيام في اختياراتٍ لا تمنح شعورًا بالتفرد والمعنى بالنسبة إليك، وبالتالي الرضا، فلا وقت لذلك؛ إذ إن الأيام لا تعود، كما قال ديكارت.