هل تعتبرالمعاكسة نوعاً من التحرش الجنسي ام هي تقليد اجتماعي يعكس اسلوباً معيناً في التعاطي مع الجنس الآخر؟ هنا مطالعة عينية حول الموضوع... "يا ريتني الكتاب الذي تحملينه بين ذراعيك" "أكيد بابا حلواني" "نفسي أتجوز" وهناك "أعرف أن يكون القمر في السماء، لكن ان يشمي على الأرض، إمبوسبول" وهناك أيضاً "يا حلو يا ابيض" وجميعها وغيرها الآلاف من عبارات تسمعها الفتيات والسيدات - شئن ام أبين - في الشوارع، يبتدعها الشباب والرجال، او يتناقلونها لإيمانهم بطرافتها، ومن منا لا يتذكر الفنان القديم الراحل عبدالفتاح القصري، وهو يغازل إحداهن بقوله: "يا صفايح السمنة السايحة، يا قوالب الزبدة النايحة، يا جوز، يا لوز". إنها ثقافة كاملة من "الغزل" في عُرف بعضهم، أو "المعاكسة" في الحديث الدارج، أو "التحرش الجنسي" في مفهوم المثقفين المدافعين عن حقوق المرأة. وللمعاكسات ألوان وأشكال وأنواع ومواسم، ونبدأ بدحض المقولة بأن "المعاكسة" هي الغزل، على الأقل في المجتمعات المصرية، وإلا فكيف نفسر من يشير إلى فتاة على قسط متواضع من الجمال ب"شيتا" أو أخرى مجعدة الشعر بأنها "ضربت شعرها في الخلاط" أو ثالثة ترتدي "بانتاكور" البنطلون القصير. "بأن القماش نفد قبل أن يكتمل البنطلون". والمعاكسات تخضع هي الأخرى للمعايير الطبقية، فالطبقات المتواضعة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً تميل إلى التشبيهات الغذائية، فالشاب إذا أراد أن يغازل فتاة شبهها بأنواع معينة من الأغذية، فمن الحلويات هناك "العسل، والملبن، والمارون غلاسيه، والبسبوسة، والمهلبية"، ومن الفاكهة هناك "المانغو"، ومن المشروبات "الشربات". أما الطبقات الأعلى، فتكون بالتشبيهات المجازية من "قمر، ونجوم، وحوريات، والنسمة، والهمسة، والملاك" كما تكون هناك مؤثرات خارجية مساعدة، مثل الاستعانة بهاتف محمول، أو مفاتيح سيارة، أو مضغة معينة للبان في الفم، وجميعها دلالات على ارتفاع المستويين الاجتماعي والاقتصادي. كما تخضع المعاكسات للعوامل الموسمية، فهي تكثر في الربيع والصيف، وتقل في الخريف، وتخمد في الشتاء، إلا أن ثقب الاوزون وتغيّر المناخ، وارتفاع درجات الحرارة فوق معدلاتها جعل الفصول جميعها مواسم للمعاكسة. "الحياة" جالت في عدد من شوارع القاهرة الرئيسية والفرعية، فوجدت أن هناك فوارق نوعية، فمثلاً المعاكسات في شوارع ضاحية المهندسين تأخذ غالباً طابعاً جنسياً مباشراً أو غير مباشر، فمشهد السيارات التي يقودها أصحابها ببطء شديد وملاصقة للرصيف بحثاً عن فتاة أو سيدة مستعدة للتنزه وتبادل الضحكات وربما أشياء أخرى من المشاهد المتكررة، حتى أن فتيات ونساء كثيرات أصبحن يتحاشين المشي وحدهن في شوارع المهندسين. والوضع نفسه ينطبق على منطقة روكسي في ضاحية مصر الجديدة، وتحديداً حول أسوار حديقة "ميري لاند" الشاسعة. لكن الأكثر شيوعاً هو جموع الفتيان والشبان الواقفين ليلاً نهاراً عند نواصي الشوارع، وهم يشكلون المنبع الأصلي لثقافة "المعاكسة" فما أن يبلغ الفتى 12 أو 13 عاماً حتى ينضم أو يكوّن مجموعة جديدة تدشن دخولها عالم الرجولة بخوض مضمار المعاكسة. وهذه الجموع - في إطار إعتناقها مبدأ المعاكسة - تبالغ في ذلك، ويصل الأمر أحياناً إلى معاكسة أي "مخلوق أنثوي حي"، إذ لم تعد ظاهرة المعاكسة ترتبط فقط بالتعبير عن الإعجاب أو السخرية، لكنها كثيراً ما تحصل من دون وعي كامل. سامح 22 عاماً يعلن في معرض حديثه أن عواطفه الجياشة تتسع لتشمل كل فتيات المعمورة: وهو يتحدث عن المعاكسات باعتبارها جزءاً لا يتجزء من الحياة اليومية، وبطولات سامح في هذا المضمار لا تنتهي، فهذه طالبة مدرسة الليسيه التي بدأت علاقته بها بمعاكسة، ثم ابتسامة، ثم لقاءات عابرة يومية على باب المدرسة. وهذه طالبة سنة أولى جامعة التي لم تصمد طويلاً أمام معاكساته الرقيقة المدعمة بقليل من التسبيل تسبيل العينين - دليل الوله - مع وضع اليدين في جيبي البنطلون الجينز دليل الثقة في قدرة التسبيل، على الإيقاع بالمحبوبة وتلك ابنة الجيران التي انهارت أمام رسالة الغرام المصحوبة بالوردة الحمراء المعهودة، والتي استعان سامح فيها بقدر من محتويات كتاب "رسائل العشاق". وعن مواصفات الفتاة التي ترقى إلى مستوى المعاكسة، يقول سامح بثقة "بيضاء، شعرها أصفر، طويلة، كما تجذبني العينان الجميلتان الواسعتان". ولما كان معظم "الحكماء" يرجعون تعرض الفتاة للمعاكسات في الشوارع إلى "بهرجتها الزائدة، وملابسها الخارجة، وأخلاقها الفالتة" رأت "الحياة" أن تسأل سامح "وطبعاً أنت لا تعاكس الفتيات المحجبات، يرد باستنكار شديد: "طبعاً أعاكسهن" لكن كيف؟ يعتدل سامح في جلسته ويقول: "مثلاً أقول لها: أكيد أنت قرعة". ونسأل سامح: "وماذا لو اعترضت الفتاة على تعرضها للمعاكسة؟" يقول باستنكار أشد رداً على هذا السؤال العجيب أقول لها: حد كلِّمك يا كابتن؟". أما عماد 23 عاماً وهو من "المعاكسين" الأشاوس، فيقول إن فئتين من الفتيات بجذبنه لمعاكستهن، إما أن تكون مبهرجة إلى حد يلفت النظر، أو جميلة لدرجة كبيرة، وقد أمدنا عماد بنماذج من العبارات المبتكرة التي يستخدمها في ممارسة هوايته تلك، فهناك "ربنا لمّا وزَّع الدلع، طلعتِ طماعة" وهناك نموذج آخر يستخدم في حال البهرجة "حتطلعي من هدومك من فرط ضيقها". ويبدو أن عماد شخصية لطيفة، فهو من كثرة لطفه يكتفي أحياناً بمتابعة الفتاة بنظراته فقط، إنه حقاً لطيف! ويؤكد عماد أن علاقة "لطيفة" مثل صداقة أو حب ممكن أن تنشأ بينه وبين فتاة عاكسها. وينفي بشدة فكرة تضرر فتاة من تعرضها لمعاكسته، لا سيما أنه حين يعاكس فتاة يتبع استراتيجية لا تصل إلى حد إثارة غضبها، وعن امكانية تطور غضب فتاة عاكسها الى حد تحرير محضر له في قسم الشرطة، يرد بثقة بالغة: "لست بالسذاجة التي تسمح لفتاة أن تصطحبني إلى قسم الشرطة"، وإن كان لم يحدد طريقة تجنب الوصول إلى قسم الشرطة، هل هي الهرب، أم إنكار قيامه بالمعاكسة، أم إدعاؤه الغباء. طه 21 عاماً يقدر الجمال الأنثوي، وإن كانت تقديراته بالغة الاتساع فهو بحكم عمله في حراسة مبنى في وسط القاهرة لا تكاد تفلت أنثى مارة من نظراته الفاحصة الماحصة، لكن طه - الذي وصل القاهرة لتوه من قريته الصغيرة في دلتا مصر - ما زال متمسكاً بتقاليد القرية المحافظة والمتناقضة وميوله الجمالية، لذا فهو ينفى تماماً انتمائه لفئة المعاكسين. وعلى رغم ذلك لمحته "الحياة" خلسة غير مرة يهمس بعبارات مقتضبة مثل: "الله" و"اللهم صلي على النبي" و"آآآه" وغيرها من الآهات والعبرات في اثناء مرور كائنات أنثوية، لا سيما الممتلئة منها. وعلى الجانب الآخر، تقول شيماء 18 عاماً إن ظاهرة المعاكسات تفاقمت في الشارع المصري لدرجة كبيرة، لا سيما أن بعضهم يتطاول الى درجة لمس الفتاة أثناء سيرها في الشارع. لكنها تعترف أنها حين تسمع كلمات "غزل عفيف" تشعر بالسعادة، وإن كانت لا ترد أبداً على أي منها، إلا أنها لا تنفي أنها أحياناً تبتسم رغماً عنها إذا كانت المعاكسة تتميز بالطرافة، تقول: "في مرة كنت أسير في الشارع مع صديقتين، وإذا بشاب يقول لنا: "أحلى بنت فيكن التي ترتدي حذاء ابيض" فإذا بنا جميعاً ننظر إلى أقدامنا، ولم تكن أي منا ترتدي حذاء أبيض، فأخذنا نضحك". أما رانيا 20 عاماً فتجد المعاكسات أسلوباً لطيفاً لتكوين صداقات عابرة مع الجنس الآخر، تقول: "ولم لا؟ هم يبحثون عن صداقات معنا، كذلك نحن، ولا سبيل أمامنا لذلك إلا هذه الطريقة، لا سيما أنني في كلية للفتيات فقط؟". لكنها في الوقت نفسه، تؤكد أنها لا تسمح لأي شخص بأن يتطاول عليها بكلمات خارجة أو عبارات تسخر من ملابسها أو شكلها، وتقول : "أنا مدربة جيداً للرد على أولئك السخفاء". أميرة 22 عاماً ترى فكرة المعاكسات برمتها سخيفة، فهي تعني أن أي شاب يحلّ لنفسه مضايقة أي فتاة. وهم يعتقدون أن الفتيات يطربن لكلمات الغزل، لكن ذلك اعتقاد خاطئ، وإلا فلماذا تصحو رجولتهم وأخلاقهم العالية من غفوتها إذا تعرضت شقيقة أو قريبة لهم للمعاكسة من شباب آخرين، وقتها قد يصل الأمر إلى معركة، وكم من حادث طالعتنا به الصحف لشاب قتل آخر لأنه عاكس شقيقته، إنها شيزوفرانيا". ولأستاذ العلوم السلوكية وعضو اللجنة الدولية لإنهاء كل أشكال التمييز ضد المرأة الدكتور عادل أبو زهرة وجهة نظر في "المعاكسات" أو "التحرش الجنسي بالنساء" يقول: "تتعرض النساء والفتيات في مصر والعالم العربي للتحرش الجنسي، وفي الغالب يكون في صورة لفظية". ويشير أبو زهرة إلى أن جسد المرأة يظل هدفاً للانتهاك البصري واللفظي، والتحرش الجنسي في صورته اللفظية، يكثر ويزيد في المجتمعات التي تعاني الكبت الجنسي، والحرمان العاطفي، والفصل في الحياة بين الجنسين، ويقول: "في مثل تلك الحالات لا تكون تفاصيل جسد المرأة هدفاً للانتهاك البصري واللفظي فقط، بل قد تصل أحياناً إلى انتهاز الفرص للالتصاق بالنساء في وسائل النقل العامة المكتظة بالركاب، كما يصل الأمر بالمكبوتين إلى التلصص البصري على ملابس النساء على أحبال الغسيل في شرفات المنازل، أو في واجهات محال بيع ملابس النساء الداخلية". ويذهب أبو زهرة إلى حد بعيد في تحليل المناخ المحيط بالظاهرة فيقول إنه خلال ربع القرن الأخير، ظهر فريقان في المجتمعات العربية منشغلان إلى حد كبير بجسد المرأة، ويشير إلى أن كليهما يعاني الكبت الجنسي، ومن الحرمان العاطفي، "الفريق الأول لا يكف عن توجيه اللعنات الى جسد المرأة الذي يراه مصدراً للفتنة والغواية، ولأنه لا يستطيع أن يقاوم رغباته المتأججة، ينادي ببقاء المرأة في المنزل أو تغطيتها تماماً وتوجيه اللعنات إليها على اعتبارها وجسدها مصدراً لكل الآثام والشرور، والفريق الثاني يسعى إلى رؤيتها عارية في صور على أغلفة المجلات أو في الأفلام أو على قارعات الطرق". ويضيف: "وكلا الطرفين لا يريان فيها عقلاً او حكمة أو قدرة على التفكير المبدع أو المبتكر أو المشاركة في إدارة شؤون المجتمع. فريق يغطيها حماية لنفسه ومقاومة لكبته، وفريق يعريها بدافع من كبته وحرمانه". ويعود أبو زهرة إلى المعاكسات، فيقول: "لا توجد امرأة لا يسعدها الغزل وإبداء الإعجاب بحسنها وجمالها، لكن من النادر أن تسعد امرأة بمن يتحرش بها أو ينتهك جسدها بالنظرات أو الألفاظ أو اللمسات أو التطاول". وفي هذا تقول سيمون دي بوفوار في كتابها "الجنس الثاني" أن المراهقة ترتدي الفستان ذا الصدر المفتوح لتلفت أنظار الرجال، لكنها تشعر بالهلع لو تطور الأمر إلى أكثر من ذلك، أو لو رأت الرغبة متأججة في عيون الرجال، أو أن يتجرأ أحد ويحاول لمسها. إلى هنا، ينتهي الحديث عن معاكسة الشباب للفتيات، لكن تجدر الإشارة إلى "صرعة" جديدة، وهي معاكسة الفتيات للشبان، فهناك من أطلت برأسها من سيارة صديقتها إلى سيارة شاب كان يقف بجوارهما في إشارة المرور لتقول له بكل ثقة: "أحلى عينين رأيتهما في حياتي". وهناك مجموعة من الفتيات من طالبات كلية التجارة أخذن يصحن على شاب في كلية الهندسة في الجامعة نفسها، وقالت إحداهن: "عبّرنا يا باشمهندس، ولا يعني علشان شبه عمرو دياب؟" أما الفتاة التي قالت لشاب يتحدث من كابينة الهاتف المواجهة لكابينتها: "إن لم تكن مرتبطاً، فنحن في الخدمة" فقد رد عليها قائلاً: "انتِ ما عندكيش إخوات صبيان ولا إيه؟" ولتلك الصرعة قصة أخرى...