بكل تأكيد إن رقمنة المدن وتحول كثير من أنشطتها لتمارس عبر منصات إلكترونية لم يكن وليد الظروف الناتجة عن جائحة كورونا، لكن في الوقت نفسه لا يمكن إنكار أن إجراءاتها الاحترازية هي بالفعل من أذكت وسارعت من وتيرة هذا التحول الكبير نحو الرقمنة، بل ووسعت من دائرة مجالاتها، خاصة في حقل التعليم والتسوق الإلكتروني، خلاف العمل عن بعد في الأجهزة الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص وما صاحبه من ازدياد اعتمادها على مواقعها الإلكترونية من أجل توفير خدماتهما المختلفة للمستفيدين. ما يدور من نقاش وحوار لا يتوقف في منتديات المختصين بمجال تخطيط المدن والمهتمين باستشراف مستقبلها هو عن أثر هذا الاضطراد في رقمنة الأنشطة بالمدن وتنامي الاقتصاد الرقمي بها على نموذجها الحالي وملامح التغير المحتمل أن يطرأ على هذا النموذج في السنوات وربما العقود المقبلة، خاصة مع تنامي انتشار شبكة الجيل الخامس في قطاع الاتصالات الذي يجعل العمل عن بعد في العديد من الأعمال إن لم يكن جلها أمراً ممكناً، وإعلان عدد من الشركات العملاقة حول العالم مثل «فيسبوك» عن توقع أن يكون نصف العاملين لديها يمارسون أعمالهم عن بعد بنهاية العقد الجاري، والمسح الذي قامت به شركة كبرى مثل «ميكروسوفت» بين موظفيها، وما أبداه سبعة من بين كل عشرة عاملين لديها رغبتهم الاستمرار في العمل عن بعد حتى بعد انتهاء الجائحة. فغير خاف أن ارتفاع نسبة العاملين عن بعد من بيوتهم لا يتوقف أثره على انحسار مساحة الاستخدام المكتبي وحسب في المدينة، وبالتالي عائده الاقتصادي سواء كان استثمارات أو ربما عوائد ضريبية، بل كذلك على الاستخدامات الأخرى المصاحبة له والمعتمدة عليه في دخلها مثل المطاعم والمقاهي والأنشطة التجارية والخدمية ذات العلاقة التي تمثل دون أدنى شك مصدر عيش للعديد من الأسر ناهيك عن التراجع في استخدام وسائل النقل العام التي نشأ الاستثمار بها في الأساس من أجل أن تلبي حاجة العاملين بمختلف فئاتهم للانتقال اليومي إلى مقار أعمالهم والعودة منها. هذا التصور عن حجم التغيير غالباً ما يربط تاريخياً بتداعيات ما بعد الجوائح التي شهدها العالم في عقود ماضية، لعل آخرها جائحة الأنفلونزا الإسبانية منذ مئة عام تقريباً التي يعزو البعض أثرها في تنامي ظاهرة الضواحي خارج المدن لأسباب منطلقها صحي بالدرجة الأولى، الأمر الذي ذهب بالتصور لدى بعض الخبراء إلى أن العمل عن بعد ستؤدي هيمنته إلى اضمحلال وتلاشي المدن الكبرى مستقبلاً نتيجة هجرة سكانها إلى المدن الأقل ازدحاماً وكثافة سكانية..؟!