بعد منتصف عام 2020م، وخلال شهر يوليو رأيت أن بإمكاني تدوين مرئياتي عن الوباء، خاصة أنه مضى أكثر من سبعة أشهر على بدايته مما يمكن من بلورة الصورة العامة عنه وعن تطوراته وتداعياته وآثاره. كانت نهاية عام 2019م غير سارة للعالم أجمع عندما ظهر في مدينة ووهان بالصين ما عرف بإنفلونزا كرونا. وقد أعلنت الصين عن انتشار الوباء خلال شهر ديسمبر 2019م، والله أعلم متى بدأ ظهوره بالتحديد. وبدأ انتشاره بعدد من الدول خلال يناير 2020 بسبب فايروس سريع الانتقال بين البشر سمي (كوفيد 19، وهي الحروف الأولى من الكلمات الإنجليزية كورونا فايروس ديزيز، وكلمتي كورونا فايروس تعني الفايروس التاجي لأن شكل الفايروس يبدو كرويا تحيط به نتوءات مدببة تنتهي كل منها بما يشبه التاج، وكلمة ديزيز تعني وباء، ويعود رقم 19 إلى السنة 2019). طبقت الصين حجراً كاملاً على مدينة ووهان مع بدء انتشار الوباء فيها، وحظرا على معظم مدن الصين، وتمكنت من السيطرة على انتشاره بين الصينين، لكنه وخلال الأشهر الأولى من عام 2020م انتشر بطريقة غريبة وسريعة وبمعدلات مختلفة في معظم دول العالم، أثارت الكثير من التساؤلات والشكوك حول الوباء ومنشئه، وطريقة انتشاره، فهل الأمر حدث طبيعي جاء بأمر الله، أو أنه بتدبير وتطوير بشري، أو أنه نتيجة خطأ غير متعمد أدى إلى انفلات الفايروس المسبب له من مختبرات الأوبئة والفيروسات بمدينة ووهان. ولأنه يظهر لأول مرة، ولم يسبق أن انتشر قبل ذلك، فقد انتاب الناس، خاصة المختصين والجهات المعنية بالصحة والسياسيين، الكثير من الغموض حوله، ومع أنه تبين منذ بداية انتشاره بالصين محدودية خطورته على صحة البشر، إذ أن معدل الوفيات في الحالات المصابة المؤكدة في حدود 4%، غالبيتهم ممن لديهم مشاكل صحية سابقة، وأن أكثر من 80% من الحالات المصابة المؤكدة تشفى بإذن الله بدون الحاجة إلى رعاية طبية، إلا أن هلعاً لا مثيل له أصاب العالم أجمع خلال شهر مارس 2020م، من مظاهره إلقاء كثير من زعماء العالم خطباً على شعوبهم لإنذارهم بخطر الوباء القادم، وحثهم على اتباع التعليمات التي تصدرها حكوماتهم ومنظمة الصحة العالمية للحد من انتشاره، وأصدرت منظمة الصحة العالمية تحذيرات مكثفة من الوباء، ووصفته بالجائحة العالمية. والجائحة هي أعلى درجات الخطورة لوصف الأوبئة. وبادرت جميع الدول بتطبيق إجراءات وقائية واحترازات غير مسبوقة للحد من انتشار الوباء، من وجهة نظري أنها لا تخلو من المبالغة المفرطة، ومما زاد الهلع والخوف لدى الجمهور تضارب وتعارض واختلاف الآراء حول طبيعة وطريقة انتشار الوباء ومدى خطورته، وكذلك تباين التوجيهات والتحذيرات من الوباء. ومن اللافت للنظر أن جميع الدول، وخلال الأسبوعين الثاني والثالث من شهر مارس 2020م، طبقت نفس التدابير الوقائية الصارمة والاحترازات المبالغ فيها حرصا ًعلى الحد من انتشار الوباء والتعامل السليم مع الجائحة، على سبيل المثال إغلاق المدارس والجامعات، والأسواق، والمصانع، وأماكن العمل، وأماكن التجمعات مثل دور العبادة، والمطاعم، وصالات السينما، وتم تأجيل عقد المؤتمرات، وتنظيم المعارض، والمناسبات الرياضية، والاجتماعية مثل مناسبات الزواج. وعلقت رحلات الطيران بين جميع الدول، ومنع السفر بين جميع الدول بكافة وسائل المواصلات، وكذلك الحال فيما يخص السفر الداخلي بين المدن في معظم دول العالم، وطبق الكثير من الدول حظر تجول لمدة 24 ساعة، كما يطبق حجر صحي لمواطني بعض الدول القادمين من الخارج لمدة 14 يوما. وفي بلادنا إضافة إلى ما سبق، أغلق المسجد الحرام أمام المعتمرين من الداخل والخارج، وكذلك الزيارة للمسجد النبوي. وتلا ذلك منع حضور الصلاة الجماعة في المساجد، وصلاة الجمع، ومنعت التجمعات العائلية. ومثل ذلك طبق في كثير من الدول الإسلامية والعربية. وبسبب تطبيق هذه الإجراءات شلت أنشطة الحياة بصورة لم نعهدها من قبل، باستثناء التركيز على الرعاية الصحية والنواحي الأمنية، وتأثرت أنشطة الاقتصاد والأعمال التجارية، وانخفضت الأسهم بالأسواق المالية بمعدلات غير مسبوقة، وتراجعت أسعار النفط بحوالي 60%، فوصلت أواخر مارس 2020م قرب 20 دولارا أمريكيا للبرميل، وهو تراجع لم تصله من سنوات. وبدأ تخوف وقلق عظيم على مستوى العالم من موجة كساد اقتصادي، وبدأ إعلان الكثير من الشركات عن إمكانية تسريح أعداد كبيرة من موظفيها، كما بدأت شركات أخرى تتحدث عن احتمال إفلاسها، خاصة شركات الطيران، وشركات الخدمات السياحية، التي شلت أعمالها بالكامل بجميع الدول. ونتج عن هذه الجائحة تغيرات فورية جوهرية في كثير من أنشطة وطرق الحياة، منها العمل والدراسة عن بعد من المنازل، وتنظيم الاجتماعات عن بعد أيضاً من خلال التواصل باستخدام التقنيات الحديثة، والتسوق إلكترونياً، مما أدى إلى ازدهار وتوسع أعمال الشركات التي تقدم هذه الخدمات، وزيادة ثروات ملاكها، وارتفاع أسهمها بصورة غير مسبوقة في أسواق المال العالمية. * الجدل الطبي حول الوباء منذ بداية انتشار الوباء بادرت وسائل التواصل ووسائل الإعلام بتداول نقاشات ساخنة مكثفة، وجدل طبي واسع على مستوى عالمي يوحي بعدم اليقين حول مصدر هذا الوباء الذي فاجأ العالم. ولا معرفة بكيفية التعامل معه للحد من انتشاره، ولا عن مدى خطورته، وهل يوجد له علاج أو تطعيم. ولهذا، وكما أشرت إليه سابقاً، طبقت جميع الدول إجراءات وقائية صارمة ومتنوعة أدت إلى تعطيل مسيرة الحياة بالكامل لأكثر من ثلاثة أشهر، وبعضها لا يزال مطبقا حتى بعد مضي أكثر من خمسة أشهر من بدء تطبيقها في معظم دول العالم، تسببت في تحولات جوهرية في أنماط الحياة، وآثار وخيمة سوف أتطرق إليها لاحقاً. ومن أهم الجدل الطبي الذي أثير كان حول منشأ الفيروس الذي يتسبب في الوباء، فبعض الطروحات تؤكد أنه بتدبير وتطوير بشري قام به علماء من بعض دول العالم يجري في مختبرات الفيروسات في مدينة ووهان الصينية وذلك في إطار تطوير أدوات الحرب البيولوجية، وفي هذا السياق وجه البعض أصابع الاتهام إلى الصين التي بدأ فيها الوباء، لكنها من أقل الدول التي تأثرت به بالرغم من كثافتها السكانية، فمجمل الإصابات فيها تجاوزت 85 ألف حالة بقليل، شفيت جميعها باستثناء الوفيات التي ناهزت 6434 حالة، وتمكنت من السيطرة على الوباء ومنع تفشيه، لكن يتهمها البعض أنها أخفت الكثير من المعلومات ذات الصلة به، خاصة مع بداية انتشاره، مما أدى إلى انتقاله بسرعة عجيبة إلى معظم دول العالم، وكانت حصيلته ملايين الإصابات، ومئات آلاف الوفيات، فهل كانت هناك أيدٍ خفية قامت بنشره؟ وبعض الطروحات ترى أن هذا عمل تآمري مشترك بين بعض الدول التي تسعى إلى مزيد من النفوذ! وتؤيد طروحات أخرى أنه بتطوير بشري في المختبرات إلا أن نشره لم يكن متعمداً، بل تسرب بالخطأ إلى الجمهور، وفلت أمره واستحال التحكم به والسيطرة عليه. وفي مسار آخر كانت تختلف وتتعارض آراء الأطباء حول طرق انتشاره، ومدى خطورته، وطرق الوقاية منه قبل الإصابة، وكيفية التعامل مع من يصابون به، والأدوية التي يمكن أن تسهم في علاجه، وعن إمكانية إنتاج تطعيم يقي من الإصابة به، وهل يكتسب المصاب مناعة ضدة، وما مدى فاعلية الإجراءات الوقائية التي طبقت في الحد من انتشار الوباء، كل ذلك وغيره يجري تداوله خلال سيل من الطروحات ينتابها عدم اليقين من أفراد ومؤسسات، حيث تتبدل مواقف وآراء الكثير منهم من وقت إلى آخر، وعلى رأسهم بعض المنظمات الدولية امتخصصة مثل منظمة الصحة العالمية التي غيرت مواقفها من الوباء مرات عديدة خلال الأشهر الستة التي مضت منذ بداية انتشاره. أما رأيي حول منشأ الفايروس فالأرجح أنه بأمر الله تطور وتحول لأحد فصائل الفيروسات التاجية التي اكتشف أول أنواعها عام 1960م، والمعروف منها حتى الآن سبعة أنواع، أخطرها على الإنسان ثلاثة هي: سارس وميرس وكوفيد. وقد سبق أن انتشر كل من سارس وميرس فيما سبق (خلال عام 2003م لفيروس سارس، وخلال المدة 2012-2015 لفيروس ميرس) في بعض مناطق العالم مسببة أوبئة تصيب بعض الحيوانات والطيور وتنتقل منها إلى البشر، وكان من آخرها وباء كرونا (ميرس) الذي انتشر في بعض مناطق العالم عام خلال عامي 2013-2015م، ومن أهمها منطقة الشرق الأوسط، وقيل إن مصدره فئة من الخفافيش، وأن الإبل هي وسيط انتقاله إلى البشر، وهو أقل من كوفيد انتشاراً فلم تبلغ مجمل حالات الإصابة به عشرة آلاف على مستوى العالم، لكن نسبة الوفيات بين المصابين تفوق كوفيد كثيراً، وقد تصل إلى 40%. * الأثر السياسي لا يمر حدث عالمي جلل مثل هذا دون أن يُستغل سياسياً، وقد توافق وقت بداية انتشار الوباء في الصين مع ذروة الخلافات التجارية والسياسية والتنافس والحرب التجارية والاقتصادية بين الصينوالولاياتالمتحدةالأمريكية التي كانت ظاهرة للعيان من خلال تقاذف وتبادل التهم في وسائل الإعلام في ميادين متعددة من أهمها تهم متبادلة بشأن انتهاك قوانين الملكية الفكرية، وتهم الإخلال بمعاهدات تبادل التجارة، وتبادل فرض الضرائب بين الدولتين، ومحاولة فرض النفوذ والتنافس من أجل الهيمنة على العالم. وقد استغلت كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية وبعض الدول الأوربية هذه الجائحة بكيل وتوجيه سيل من الاتهامات إلى الصين من أهمها: اتهامها أنها طورت ونشرت الفيروس المسبب للوباء عمداً بقصد تدمير اقتصاد العالم، خاصة الدول الغربية، التي قد تضطر إلى التخلي عن استثماراتها بالصين التي تقدر بمئات المليارات، وبيع أصولها بالصين على الشركات الصينية بأبخس الأثمان، وأنها تأخرت عن الإبلاغ عن انتشار الوباء قاصدة نشره على أوسع نطاق لتستحيل السيطرة عليه، وأنها تعمدت نشر الداء وربما لديها الدواء لكي تقوم ببيعه على العالم بعد استفحال انتشاره. ومن الطرائف أن الرئيس الأمريكي تعمد تسمية الفيروس المسبب للوباء بالفيروس الصيني وتكرار ذلك مراراً في تصريحاته لوسائل الإعلام على الرغم من تسميته (كوفيد-19) من منظمة الصحة العالمية، وتعالت أصوات، خاصة من رئيس أمريكا، بمطالبة الصين بتعويض دول العالم عن الأضرار والخسائر البشرية ولاقتصادية التي تسبب بها. ونفت الصين من جانبها هذه التهم جملة وتفصيلاً، ولم تسلم منظمة الصحة العالمية من اللوم على التقصير بالتعامل مع الوباء، وأنها كانت متواطئة مع الصين في التضليل حول طبيعة الفيروس المسبب له، وفي بداية يوليو 2020 أرسلت منظمة الصحة العالمية خبيرين إلى الصين للتحقيق في منشأ الفيروس، وأسباب انتشاره، والله أعلم بالحقيقة. ومهما بلغ الأثر السياسي لهذا الوباء فهو لن يختلف كثيراً عن مسببات الصراع السياسي بين الدول التي يدفعها التنافس على الريادة والهيمنة وبسط النفوذ على خيرات الشعوب ومصدرها الطبيعية. * الأثر الصحي مع أن الوباء بدأ بالانتشار أواخر عام 2019 ميلادي، فلا يزال حتى هذا اليوم 30 أغسطس2020م ينتابه الكثير من الغموض، ولا يستطيع أحد توقع آثاره الصحية على الأمد البعيد، وهل سينتهي ويزول قريبا أم يبقى إلى أن يشاء الله، وبحسب الإحصاءات والتقديرات فقد كلف التعامل معه العالم مئات المليارات من الدولارات، ولا تزال رحاه تطحن الأموال، وتحصد الأرواح، فقارب مجمل الوفيات على مستوى العالم حتى اليوم الأحد 30 أغسطس 2020م 850 ألف حالة من مجمل الإصابات المؤكدة المسجلة التي تجاوزت 25 مليون إصابة، بينما تتوقع بعض الإحصاءات أن يتجاوز عدد الإصابات التي لم تسجل في كثير من الدول عشرة أضعاف هذا العدد، وتسبب الوباء ضغوطا هائلة على المنشآت الصحية في جميع دول العالم دون استثناء من أجل تقديم الرعاية للحالات الحرجة من المصابين، ولا تزال الجهود العالمية في سباق محموم وتنافس شرس، وأحياناً غير شريف بسبب السرقات العلمية والتجسس، من أجل تحقيق سبق في اكتشاف تطعيم أو علاج لهذا الوباء، إذ يتوقع أن يجني من يحرز الفوز في السباق أموالاً طائلة وثروات هائلة نتيجة بيع الدواء الذي سيحتاجه كل مصاب، أو التطعيم الذي يتوقع أن يحتاجه مليارات البشر، وظهرت بشائر تطوير لقاح فاعل هذه الأيام في عدد من الدول منها روسيا، وبريطانيا، والصين، وأمريكا، يتوقع بحول الله قرب الترخيص له ليبدأ التطعيم ضد الوباء على نطاق واسع مما سيوقف انتشاره بحول الله. * الأثر الاقتصادي والمالي مع صعوبة تقدير أو تحديد الآثار الاقتصادية للوباء حاليا وقبل زواله، فبدون مبالغة يمكن القول إن الآثار الاقتصادية والمالية هي الأعظم من بين آثار وتبعات الجائحة، وسواءً كانت سلبية على معظم القطاعات والخدمات، أو إيجابية على قطاعات أو خدمات محدودة. ومما يثير الدهشة أن معظم دول العالم طبقت تدابير وإجراءات واحترازات وقائية متشابهة، شلت تماما جميع أنشطة الحياة نتيجة تطبيقها بصرامة من معظم الدول للحد من انتشار الوباء والتعامل مع الجائحة. وبسبب حالات الإغلاق الصارم تدهورت أو توقفت كثير من الأنشطة التجارية والخدمات، خاصة السياحية، وأفلست كثير من الشركات من مختلف القطاعات الخدمية والتجارية والصناعية، وسرح عشرات الملايين من الموظفين من وظائفهم، ولا تزال الآثار السلبية تتراكم على مستوى العالم مخلفة خسائر تقدر حتى أواخر يوليو 2020م بأكثر من 6 تريليونات دولار، ومعدلات عالية غير مسبوقة من البطالة، والله أعلم كيف ستؤول إليه الأحوال. أما التبعات الإيجابية على عدد محدود من الشركات التي استفادت من الجائحة فقد كان مذهلاً، وحقق ملاكها ثروات طائلة، بعضهم تضاعفت ثروته عدة مرات، ومنها شركات تقنيات الاتصال المرئي مثل شركة زوم، وشركات تصنيع المعقمات والكمامات والمنتجات الطبية ذات الصلة بالوباء، وشركات التجارة الإلكترونية، مثل شركة أمازون وشركة علي بابا وغيرهما، فمصائب قوم عند قوم فوائد. وأتوقع أن تؤول هذه التحركات والتغيرات إلى فقدان التوازن في مسيرة المال والأعمال، وربما تقود إلى كوارث مالية واقتصادية واجتماعية، وقد لا تعود أنشطة الحياة إلى مستوياتها وتوازناتها قبل الجائحة. ومن وجهة نظري أن الأوضاع الاقتصادية والمالية تحتاج لسنوات للتعافي لكنها قطعا لن تعود إلى ما كانت عليه قريبا. * تحولات وتغير في أنماط الحياة بعد زوال الجائحة أتوقع حصول تحولات جوهرية في كثير من مناشط الحياة وأحوال الناس وسلوكياتهم خلال وبعد زوال الجائحة، خاصة مع وجود تغييرات وتحولات تقنية وإدارية وخدمية ومستجدات كثيرة كانت قادمة فيما خلال العامين الماضيين تتحرك ببطء قبل الوباء بسبب مقاومة التغيير المعتادة، لكن الظروف التي حلت بسبب تفشيه دفعت إلى الأخذ بها وتطبيقها بوثيرة أسرع كثيراً مما كان مخططا له في كثير من دول العالم، وقد استحسن الناس أكثرها، وأتوقع أن ستصبح من أهم مظاهر التغيير في أساليب ومظاهر الحياة الجديدة بعد جلاء الغمة، أرى أن من أهمها ما يلي: * العمل من المنازل بعد فرض الحجر ومنع الحضور إلى مقرات العمل لم يكن أمام قطاع الأعمال العام والخاص سوى الطلب من الموظفين العمل من منازلهم، ومن حسن الحظ أن مقومات نجاح العمل من المنازل تكاد تتوفر في معظم الدول، خاصة خدمة شبكة المعلومات العالمية التي من أهم خدماتها البريد الإلكتروني، ونقل الاجتماعات المصورة حية على الهواء، وخدمات معظم وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك الانتشار الواسع للهواتف الذكية، واللوحية، وأجهزة الحاسب المتنقلة، مع توفر الخبرة الكافية لدى شريحة عرضة من الموظفين، خاصة الأجيال الجديدة منهم. وقد أثبتت تجربة العمل من المنازل نجاحاً يفوق المتوقع في كثير من قطاعات العمل العامة والخاصة، وبعد وضع الضوابط المناسبة للعمل عن بعد فمن المحتمل استمرار كثير من الجهات بتطبيق هذا الخيار نتيجة للفوائد الكثيرة التي يحققها، ومن أهمها توفير تكاليف تجهيز وصيانة المكاتب للموظفين، وتوفير مواقف سياراتهم، وتوفير أعباء التنقل من المنزل إلى مقر العمل الذي يستهلك الكثير من الوقت والوقود للكثير من الموظفين، خاصة مع ازدحام حركة المرور وطول المسافات بالمدن الكبيرة، إضافة إلى مرونة أوقات العمل، ومع ذلك يمكن تحسن جودة العمل وزيادة في إنتاجية الموظفين. * عقد اجتماعات العمل عن بعد فيما مضى، وإلى ما قبل تفشي الوباء، كان الخيار الأفضل لعقد اجتماعات العمل هو التقاء من يستدعي عملهم عقد اجتماع في مكان مناسب يتفق عليه وعلى طاولة واحدة، وقد يتحمل بعضهم أعباء جسيمة للسفر إلى مقر الاجتماع، سواء داخل المدينة، أو داخل البلد، وأحياناً عبر القارات في رحلات متعبة قد تستغرق ساعات طويلة للسفر بالطائرة، وما يترتب على ذلك من مصاريف باهظة أحيانا لتغطية تكاليف السفر، خصوصا عندما يستدعي الأمر سفر مسؤول كبير، أو عدد كبير من الموظفين. بدأ عقد بعض الاجتماعات عبر الفيديو قبل قرابة عشر سنوات إلا أن تكاليف الاتصال المصور بدأت واستمرت عالية إلى أن تطورت تقنيات الاتصال المرئي ضمن تطور تقنيات خدمات الإنترنيت، وأصبحت تكاليف الاتصال المصور معقولة، وكثرت التطبيقات التي تساند هذا النشاط، لكن التوسع في عقد الاجتماعات عن بعد ظل يسير ببطء حتى حلت جائحة وباء كورونا، وتم منع السفر بالطائرات، خاصة بين كثير من الدول لمدة تجاوزت نصف سنة مما اضطر الجميع إلى خيار عقد الاجتماعات عن بعد عبر تقنيات الاتصال المصور، وقد أثبتت الممارسات نجاحاً منقطع النظير لهذا الأسلوب الجديد في مجالات العمل المختلفة، سواء في عقد اجتماعات العمل، أو العمل من المنازل، وأصبحت الآن معظم الاجتماعات الرسمية، سواء كانت على مستوى قادة الدول، أو كبار المسؤولين، أو اجتماعات العمل في المنظمات الدولية، واجتماعات العمل بين الأجهزة الحكومية، وفي شركات القطاع الخاص، تعقد من خلال الاتصال المصور، ونتيجة للتوسع في هذا النمط من العمل ازدهرت الشركات التي طورت ولا تزال تطور تطبيقات الاجتماعات عن بعد، وعلى سبيل المثال شركة تطبيق زووم الذي اشتهر كثيراً منذ بداية انتشار الوباء، وزادت القيمة السوقية للشركة التي طورته أكثر من 150% خلال النصف الأول من عام 2020م. وأتوقع استمرار عقد معظم اجتماعات العمل مستقبلاً وحتى بعد زوال الجائحة عبر هذه التطبيقات التي أثبتت فاعليتها ونجاحها. * التعليم عن بعد لم يكن هناك سبيل لمواصلة التعليم بكافة مستوياته بعد إغلاق مقرات الدراسة من جامعات ومدارس في معظم دول العالم للحد من انتشار الوباء سوى التعليم عن بعد. وقد مكنت تقنيات الاتصال المسموع أو المرئي من خلال شبكة الانترنيت وباستخدام الحواسيب أو الجوالات الذكية من مواصلة التعليم عن بعد من خلال نقل شرح أستاذ الجامعة أو المعلم مباشرة من خلال تطبيقات بسيطة تمكن المتحدث من الشرح الحي والمناقشات مع طلابه وفقاً لجدول محدد، أو من خلال تسجيل المادة ووضعها على موقع يمكن للطالب الدخول إليه من خلال رابط في أي وقت يشاء. هذه الأساليب أثبتت مستوى معقولاً من النجاح، لكن من وجهة نظري، وبحسب تجربتي مع اثنين من أبنائي في المرحلة الابتدائية وفي الجامعة، أنها لا تزال تحتاج إلى مزيد من الجهد من المنزل لضبط حضور الطالب ومتابعته، خاصة مستويات التعليم العام لما قبل الجامعة. وربما يمكن تطوير تطبيقات التعليم عن بعد لتغني عن الحضور الدائم إلى الفصول الدراسية في مراحل التعليم العام، وقاعات الدراسة الجامعات لمعظم المواد. * الخدمات الطبية عن بعد مع تطور تقنيات الاتصال هل سنظل مضطرين لزيارات عيادات الأطباء، والتزاحم في ممرات المستشفيات، وإضاعة الكثير من الوقت في انتظار الدخول على الطبيب ربما في أماكن انتظار غير مريحة ومزدحمة، إلى جانب تحمل أعباء التنقل في الشوارع المزدحمة، وعناء البحث عن موقف للسيارة. ومع أن الحصول على بعض الاستشارات الطبية كان متاحاً من خلال الاتصال المرئي خلال السنوات القريبة الماضية إلا أن تقبل مراجعي عيادات الأطباء لهذه الخدمات كان دون المستوى المطلوب. ومع تطبيق الحجر المنزلي بسبب جائحة كورونا، وتخوف المرضى من تلقي الوباء بسبب زيارة المستشفيات، فقد توفرت القناعة لدى الكثير من المرضى، خاصة أولئك الذين لا تستدعي حالاتهم مقابلة الطبيب، وأصبح بإمكان الكثير منهم الحصول على الاستشارة الطبية من خلال الاتصال المرئي مع الطبيب دون الحاجة لتكبد المعاناة، وربما تحمل بعض الأخطار، سواء في الطرقات أو داخل أروقة المستشفيات. وفي تقديري أن تقديم نطاق واسع من الخدمات الطبية، خاصة الاستشارات من الأطباء، حتى من أطباء خارج البلاد، أو في مدن غير تلك التي يقيم فيها المريض، والحصول على وصفات العلاج الكترونياً، وإحضار الأدوية إلى مقر سكن المريض، ستكون من سمات الخدمات الطبية مستقبلا بعد زوال الجائحة. * التجارة الإلكترونية توسعت التجارة التقليدية والتسوق فيما عرف بالمولات والمراكز التجارية الكبرى خلال العقود الخمسة الماضية إلى أن أصبحت من أهم مظاهر الترويح وقضاء وقت ممتع، خاصة مع أفراد الأسرة، ولهذا أصبحت الأسواق التجارية من أهم مجالات الاستثمارات، وأصبحت من قطاعات الأعمال التي توفر ملايين الوظائف، وصارت متنفساً يقصدها ملايين البشر، ربما ليس للتسوق فقط، بل في الغالب للترويح والترفيه. وقد بدأت التجارة الإلكترونية والتسوق من خلال شبكة الإنترنيت تنافس وتزاحم هذا النشاط، خاصة خلال السنوات العشر الماضية، وأنشئت كثير من الشركات التي تقدم خدمة التسويق والتجارة الإلكترونية من خلال مواقع لها على شبكة المعلومات العالمية، وأصبح بعضها شركات عملاقة مثل أمازون، وعلى بابا. وقد كانت المنافسة سجالاً بين هذه الشركات ومراكز التسوق التقليدية خلال السنتين الماضيتين، إلا أن إغلاق الأسواق خلال الأشهر الستة الأولى منذ ظهور الوباء أعطت نشاط التجارة الإلكترونية فرصة ذهبية أدت إلى ازدهارها ونموها بمستويات لم يسبق لها مثيل، ودفعت بها إلى الصدارة مما جعل بعض مؤسسيها وملاكها يثرون ثراءً فاحشاً رفع ثرواتهم إلى أرقام فلكية، فعلى سبيل المثال أصبح مؤسس موقع أمازون للتجارة الإلكترونية (جف بيزوس) أغنى أثرياء العالم، وتجاوزت أمواله أواخر يوليو عام 2020م 190 مليار دولار بعد أن كانت في حدود 89 مليار دولار خلال مارس الماضي، وزادت القيمة السوقية لخمس شركات فقط مما يعرف بعمالقة التقنية (أبل، وأمازون، ومايكروسوفت، وفيس بوك، وجوجل) إلى قرابة 3 تريليون دولار من مارس حتى أواخر يوليو 2020م مستفيدة من ظروف الجائحة، ومن وجهة نظري أن ذلك سيحدث خللاً كبيراً في المنافسة وتكافؤ الفرص بالتجارة والأعمال والخدمات والتطبيقات التقنية، وبالتالي تكدس الثروات عند فئة محدودة، وسيقود إلى الاحتكار، خاصة بعد الهيمنة المتوقعة للتجارة الإلكترونية بعد زوال الجائحة، وسوف تتراجع وربما تتلاشى كثير من أنشطة وأساليب التجارة التقليدية، ويفقد نشاط التجارة ملايين الوظائف. * تطبيقات العامل الآلي (الريبوت) مع تطور ما يسمى بالذكاء الصناعي، تدرجت وتطورت وانتشرت استخدامات العامل الآلي في كثير من الصناعات، خاصة صناعة السيارات، ثم تبعتها صناعة الإلكترونيات والأجهزة المنزلية، إلى درجة غياب العنصر البشري تماما من كثير من خطوط الإنتاج، وهذا ما لاحظته خلال زياراتي العديدة خلال السنوات الخمس الماضية لكثير من المصانع في اليابان، والصين وكوريا الجنوبية، وبعض الدول الأوروبية، وأمريكا. ومن أهم ملاحظاتي تقلص الاعتماد على العنصر البشري بعد أن حل العامل الآلي بالتدريج محل اليد العاملة البشرية في معظم المصانع والمستودعات وبعض الخدمات، ومع ذلك بقي كثير من الصناعات، وخدمات المطاعم، والخدمات الطبية المساندة، وأعمال المكاتب، وأعمال المنازل، وقيادة وسائل المواصلات لاتزال تعتمد على القوى البشرية، ومن المتوقع نتيجة لهذه الجائحة وما ترتب عليها من منع العنصر البشري من التجمعات والتعامل مع كثير من العمليات، خاصة في مواقع العمل، سوف يدفع بقوة إلى الاستغناء عن العنصر البشري، ليحل محله العامل الآلي الذي لا تصيبه الأوبئة ولا يكل ولا يمل، ولا ينفعل ولا يزعل، ويسهل استبداله إذا تعطل، وبتكاليف زهيدة قياساً على العنصر البشري، لكن ذلك من وجهة نظري سيحدث تأثيراً اجتماعياً مدوياً يتمثل في فقد الكثير من القوى البشرية التي تعمل في خطوط الإنتاج لوظائفهم، وما سيترتب على ذلك من تزايد البطالة وتفشي الفقر وتأثير سلبي على فئات عريضة من متوسطي الدخل مما سيقود إلى تراجع الطلب على البضائع وانخفاض المبيعات، وما سيترتب على ذلك من الكساد الاقتصادي، وتدهور قطاعات الأعمال والصناعة والتجارة، وانخفاض دخل كثير من الحكومات من الضرائب على المشتريات، وبالتالي تراجع الانفاق الحكومي على الخدمات مثل التعليم والصحة والأمن والمشاريع وبالتالي تدهورها. * التوسع في التطبيقات التقنية في كافة المجالات نتيجة للتطور التقني المذهل وثورة المعلومات والاتصالات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي المأهول شهدنا خلال العقدين الماضيين توسعاً غير مسبوق في التطبيقات التقنية الإلكترونية، انطلاقا من الأعمال الإدارية والمالية في المؤسسات الحكومية والشركات وقطاعات الأعمال، والخدمات الصحية، والبنكية، وتسديد قيم البضائع والخدمات، وحجوزات الطيران، وإجراءات السفر، وإدارة سيارات الأجرة، وحجز الفنادق، والترفيه، ونقل البضائع عبر طائرات الدرون، والتجارة الإلكترونية. وفي الآونة الأخيرة انطلاق تطبيقات عقد الاجتماعات المصورة وعن بعد، والتعليم عن بعد، والعمل من المنازل، وغير ذلك. وفي تقديري أن الظروف التي فرضتها جائحة كرونا، خاصة التدابير الوقائية الصارمة التي طبقت على مستوى دول العالم، سوف تدفع بالتطبيقات الإلكترونية والتقنية التي يسانده تطور الذكاء الاصطناعي إلى مزيد من التوسع، وقد تصل نهاية المطاف إلى تقليص أو ربما الاستغناء عن العنصر البشري تماما في معظم التعاملات والأعمال وأنشطة الحياة المختلفة. وفي ظني أن بعض مظاهر الحياة قد تختفي تماما في المستقبل القريب مثل الكتابة بالقلم، وكذلك إلى حد كبير النقود الورقية، والصحف الورقية، وربما تتبعها الكتب الورقية. * التأثير على بعض عادات المجتمع وسلوكهم وطرق حياتهم مع بداية انتشار الوباء والبدء في تطبيقات الاحترازات الوقائية التي يمس بعض منها عادات وتقاليد المجتمع، مثل وجوب تفادي المصافحة، والحرص على التباعد الجسدي، وتكرار غسل اليدين، ولبس الكمامات، والحرص على استخدام المطهرات والمعقمات، وتجنب الاجتماعات العائلية، ولقاءات الأصدقاء، ومنع إقامة وحضور حفلات الزواج، والاحتفالات العائلية الكبيرة والولائم، فلم يكن سهلاً على معظم أفراد المجتمع في البداية التعود على تطبيق هذه الإجراءات الوقائية بالرغم من أهميتها في المحافظة على صحتهم. ومع الوقت بدأت تتغير مفاهيم الناس وتتوفر القناعة لدى الكثير منهم من أجل مراجعة وتغيير بعض العادات غير السليمة، خاصة من وجهة نظري طريقتنا في السلام على بعضنا، ومن ذلك تكرار المصافحة في اليوم عدة مرات عند تكرار اللقاءات لنفس الشخص، وكذلك ما تعودنا عليه من المعانقة والتقارب البدني خلال السلام عند اللقاءات المتباعدة وفي المناسبات. هذه العادات وإن كانت محبذة لدى البعض إلا أنها سبب لنقل وانتشار بعض الأمراض بين البشر، خاصة أمراض الإنفلونزا التي منها وباء كورونا. وبدأ الناس يُحيُّون بعضهم من مسافة معقولة، ويتقبلون التباعد الجسدي في الجلوس، كما تعودوا على استخدام الكمامات عند الخروج، وأصبحوا يتفادون الأماكن المزدحمة، ويحرصون على غسل الأيدي وربما تعقيمها عند دخول المنزل، كما صارت حفلات الزواج المختصرة جدا نهجا جديدا، وهذه من وجهة نظري عادات حميدة عسى أن يستمر الأخذ بها بعد زوال جائحة كورونا التي من المؤكد أنها لن تكون الوباء الأخير على البشرية، مما يستوجب مراجعة بعض العادات والتقاليد التي تساعد بعد حفظ الله على حماية وسلامة الجميع. ** ** - دكتور مهندس/ صالح بن حسين العواجي