على عكس الآخرين الذين يحتاجون منبّه الهاتف؛ لإيقاظهم من نومهم، كان عبدالله مستيقظًا بلا منبه، وعينيه تحدّقان إلى السقف الذي لأول مرة يشعر أنه منخفض عن العادة. أغلق عينيه قليلاً بينما كانت كلمة التغيير تتردد في ذهنه، قبل أن ينقلب في السرير، وينظر إلى ساعة الحائط التي بدت له أنها تراقبه. كان لا يزال يرتدي ملابس الأمس، ليس لشيء ما سوى أنه قد اعتاد النوم بها، وتبديلها في كل يوم جديد بملابس ما قبل الأمس المغسولة بعناية، وهكذا تبقى ملابس الأمس للغد بعد غسلها. نهض تاركًا سريره متأخرًا عن العادة وهو يفرك رأسه كأنه يريد إخراج مارد الصوت الذي يتكرر شاغلاً باله -منذ أقل من أربعة وعشرين ساعة- عن تغيير حجة غيابه التي لم يَعُدْ أحدٌ يرضى بها؛ كما قال له أخوه. أفرغ جيوب ثوب الأمس من محتوياتها المعتادة، محفظة فارغة إلا من هويته الشخصية، وفرع مورق من أي نبتة يجدها صامدة في الوادي الجاف الذي زاره بالأمس، ثم ما إن نزع ثوب الأمس عنه، ورماه سهوًا في سلة المهملات بدل سلة الغسيل كما كان يفعل في كل مرة، حتى تقدم نحو المغسلة. هذا أول صباح ينشغل به فيما يقال عن سلوك حياته؛ وذلك لأن أخاه تكلم معه هذه المرة بصراحة مباشرة غير معهودة، وأخبره أنه إذا ما أراد الوظيفة والزوجة، فإن عليه أن يتغير أمام الآخرين، وأن لا يبقى على حاله هكذا بعيدًا عنهم. وقف أمام المغسلة ينظر إلى نفسه -من الخارج- في المرآة، بشاربه الذي يحتاج لتحديد، وشعر رأسه الذي لم تطاله الصبغة بعد، وهو يستعيد ما دار بالأمس من حديث، ويفكر بجدية في إمكانية تغيُّره، وتجريب عدم الغياب عن المناسبات الاجتماعية الكثيرة، كذلك تغيير حجة غيابه المعتادة والوحيدة التي تبدّل ملامح أصدقائه وأقربائه، كلما نطق بها، فيحسبونه ساخرًا منهم، وعلى إثر ذلك يبدؤون بتجاهله. في الحقيقة، لم يكن يلحظ تجاهلهم إياه، ولم يكن أصلاً يطيل النظر إلى ملامحهم ويفتش فيها. كان فقط يُلقي السلام ثم يمضي. ولولا صراحة أخيه المباشرة غير المعهودة معه، عن عاقبة عدم مشاركة الآخرين مناسباتهم الاجتماعية، لاستمر دون أن يفكر بتغيير حجة غيابه التي من شدة صدقها؛ لا أحد يُصدّقها على حد وصف أخيه. أغلق الحنفية بعدما انتهى من إزالة بقايا الأمس عن راحة يديه ووجهه، ثم رفع عود النبتة على الرف، وفي داخله بدأت تتشكل قناعة باهتة عن البدء باستخدام حجة غياب أخرى غير الحقيقية، ومحاولة مواكبة الآخرين والظهور في مناسباتهم. كانت المسألة غير مفهومة بالنسبة إليه! لماذا حضوره مُهمّ لدرجة أنه مرتبط بالزواج والوظيفة؟! وكان التفكير في المسألة أشد صعوبة من الاستجابة لها. هذا بالإضافة إلى أن المعاناة التي لا يدركها، تكمن في أنه مختلف بكل بساطة، ولكي يحافظ على اختلافه في مجتمع صغير، فإن على عاتقه التحلي بمرونة تذكير الآخرين أنه يشبههم! بدّل ملابسه، وقلم أظافره، وظل في المنزل ينتظر أخاه، ولم ينطلق -على غير العادة- نحو الوادي والسهول القريبة من أطراف المدينة، كما كان يفعل في أغلب أيامه؛ من أجل تزجية الوقت الذي لا يمرّ بسهولة في المدينة. ما أسوأ أن يزدحم ذهنك بأشياء معقدة لا تفهمها!، وبذات الوقت لا تستطيع طردها والتخلص منها، خاصة عندما لا تكون أنت جميعًا في نفس المكان! بمعنى أن تجد جسدك وذهنك ووجدانك موزّعة على أماكن مختلفة في اللحظة ذاتها. تطلع عبدالله نحو الساعة، وتذّكر كيف كانت سيارته تتهادى عبر البرية المنبسطة أمامه باتجاه الوادي الفسيح في مثل هذا الوقت من كل يوم! ثم طرأت على باله فكرة إلغاء الموعد مع أخيه الذي نبَّهه بالأمس عن وجود وليمة عائلية في هذا اليوم، وهي عبارة عن غداء بمناسبة ترقية وظيفية، وعليه مرافقته والحضور هذه المرة، علَّها تكون خط بداية انطلاقه نحو ترميم صورته الاجتماعية، وبناء شبكة علاقات تراكم ما يكفي له من حظوظ؛ لجلب الفوز عبر وسيطٍ بالزوجة والوظيفة. لكنه ما لبث أن تراجع عن فكرة الإلغاء، مستحضرًا ما قاله أخوه له عن الوظيفة التي ستصبح بمثابة الأم الثانية له! في حين راح يكلّم نفسه متدربًا على دوره لهذا اليوم، مجهّزًا ابتسامته حينًا، ومجرّبًا عباراته حينًا آخر. كان غافلاً في مظهره، ومن وقت لآخر، تبرز في ذهنه صور الوادي والسهول على شكل فقاعات سرعان ما تتفرقع؛ مسببة وخزات تحاول حثّه على التراجع! تطلع عبدالله نحو الساعة، وحين قرر الانطلاق بعيدًا عن المناسبة؛ حيث لا الأفق جدار أمامه، ولا السماء سقف فوقه، وصل أخوه في آخر ما تبقى من اللحظة التي كان بإمكانه التراجع فيها، وبناء على ذلك وجد عبدالله نفسه -ولأول مرة منذ زمن- يشارك الآخرين الوليمة المقامة في الحي الذي يعيش فيه. جلس على كنب المضيف المريح جدًّا، في مستطيل من المتجاورين، ينظر إلى طابور الثريات المعلقة بالمقلوب في سقف المجلس ذي الطابع التراثي. ينهض للمصافحة كلما نهضوا، وعيناه تبحثان عن الساعة دون جدوى، وما بين فترة صمت -ينشغل بها الجميع بهواتفهم- وأخرى، يسأله أحدهم عن حاله وعن غيابه السابق، وبدوره كان هو يستخدم الحجج الجديدة المتفق عليها التي راجعها مع أخيه قبيل مجيئهم، مدعيًا بنبرة غير مألوفة المرض تارة، والسفر تارة أخرى، لتصله بعدها عبارات المجاملة الصادرة عن أفواه مبتسمة، بنبرات راضية، بعدها سرعان ما يعود الجميع لشاشات هواتفهم، باستثنائه! لم يستطع استيعاب ما يحدث! فقد تمت إجازة وتمرير حُجَجه الجديدة بسرعة! وما دام الأمر كذلك، فإن الحصول على وظيفة أمرٌ سهل جدًّا بعد الآن، كل ما عليه فقط هو إبرام اتفاقية عدم العودة إلى حجة غيابه الحقيقية السابقة التي لا يعلم لماذا لا أحد يصدقها! لماذا يحسبونه ساخرًا؛ لمجرد قوله أنه يقضي جُلّ وقته في أطراف المدينة، ولا يملك هاتفًا، ولا وسائل تواصل اجتماعي تتيح له الاطلاع على ما يدور بينهم! حقيقة الأمر غير مفهوم بالنسبة إليه. تطلع عبدالله نحو الباب، وفي تلك اللحظة، تسلل منسحبًا من مكانه، فإذا به يبتعد دون أن ينتبه إليه أحدٌ، وسط نظرات الجميع الراضية عنه.