هل نعشق الحزن أو نَكرهه؟، كُلُّنا نهرب من الإجابة كما نهرب من الماضي، الماضي لا ينام ولا يموت، الماضي هو الحاضرُ والمستقبلُ، هل الحزن شعور أو موقف فلسفي؟، ينبغي أن نُحدِّد المفاهيم قبل أن نطرحها للنقاش، الحزن غابةٌ بِكر غير مُكْتَشَفَة، وعلينا اكتشافها، رُبَّما نُنقِّب عن الحزن لنعرف معنى الفرح. يُعلِّمنا الحزن أن نُغيِّر زاوية الرؤية باستمرار، ولا نطمئن إلى الأفكار التي تُصبَغ بهالة القداسة، كثيرٌ من الحقائق والمُسلَّمات في الماضي، صارت أوهامًا وخُرافاتٍ في الحاضر، لأنَّ الإنسانَ كائنٌ محدود ومحصور في نظام استهلاكي، وهذا النظامُ الاستهلاكي العالمي يَجعل الإنسانَ ضَيِّق الأفق، وقصير النظر، لقد تحوَّل الإنسانُ إلى وحش لأخيه الإنسان، وهذا سبب منطقي لاندلاع الحزن في تاريخ الحضارة الإنسانية، التي يضع قوانينها الأقوياء. الحزنُ بُركان خامد، قد يثور في أيَّة لحظة، ونحن نجهل ساعة ثَوَرَانه، لأننا نجهل أنفسنا، كان علينا أن نُنقِّب في ذواتنا لاستخراج الحزن القديم، ونفض الغبار عنه، كي يُضيء طريقَنا إلى أرواحنا، نحتاج إلى صدمة الحزن كي نستيقظ مِن سُباتنا الطويل، لا فائدة مِن الجَمَال إذا كان قائمًا على القِناع، لأن القِناع عَرَض زائل، وسوف يَسقط عاجلًا أو آجِلًا، الجمالُ الحقيقي هو الجوهر، ونحن نحتاج إلى مشاعر الحزن كي نكتشف هذا الجوهر. نحن في سباق مع الزمن لاكتشاف ذواتنا، نحن في سباق مع أحزاننا للتنقيب عن قلوبنا داخل أنقاض قلوبنا، ولكن ما الفائدة من اكتشاف الإنسان لذاته؟، لا بد من معرفة الذات في الطريق إلى المرايا، سنمشي إلى الضوء في نهاية النفق، ولا تاريخ للمرايا سوى سقوط الأقنعة. هل الحزن عنصر أصيل في الكيان الإنساني أو عنصر دخيل؟، وهل يستطيع الغرباءُ تحديدَ العناصر الأصيلة والدخيلة؟، نخاف أن ننظر إلى المرايا، وإذا نظرنا نكتشف كَم نحن غُرباء عن ذواتنا، نحن نُحاصر أنفسنا بأنفسنا، وأخطر مرض يُهدِّد الإنسانَ أن يكون مريضًا بالوهم. الحزنُ فلسفةٌ متكاملة، ونظام فلسفيٌّ يُولد فِينا لِيُطهِّرنا، ونُولَد فِيه كي نرى وجوهنا خارج نُفوذ المرايا والأقنعةِ. وهذا النظامُ الفلسفيُّ يصنع فلسفةَ الألم، والألَمُ ضروري للتَّطَهُّر والتطهير، وإذا تكرَّسَ الألَمُ واقعًا ملموسًا، سيتحول إلى ندمٍ، والندمُ على الخطايا هو الرُّكن الأعظم في التَّوبة. كُلُّ شعور إنساني إذا تَحَوَّل إلى موقف فكري، صارَ فلسفةً، والحزنُ إذا انتقلَ مِن طَور الشُّعور إلى طَور المعنى، صَارَ فلسفةً، أنا ضِد الحزن حِين يَتحوَّل إلى مَحرقة، فعندئذٍ، سنقضي وقتنا في البحث عن كبش المحرقة، فليكن الحزنُ هو الماءَ المُقطَّر، قد لا نستسيغ مذاقَه، لكنَّ وجوده ضروري في حياتنا، وليكن الحزن سلاحنا في مُواجهة الوحوش الساكنة في قلوبنا، وليكن الحزن خُطةً لإحياء ما ماتَ فِينا مِن مشاعر وأحاسيس وذِكريات، هكذا يَتحوَّل الحُزن مِن الوهم إلى المعنى، ومِن رَدَّة الفِعل إلى الفِعل. ينبغي تحويل الحزن إلى قوة دافعة للإبداع، كما أن الموت ينبغي أن يَدفعنا إلى استثمار كل لحظة في الحياة، الحزنُ هو المعنى التكويني الذي يَصنع إرادةَ القويِّ، والقوي قوي بذاته، يصنع ظروفه بنفْسه، لا ينتظر الآخرين كي يضعفوا أو ينهاروا، ويبني مجده على انكسارهم. القوي لا ينتظر أحدًا كي يُساعده، ويَمُد له يد العَون، ولا يتوقع شيئًا مِن أحد، يمشي في طريقه واثقًا، ولا يلتفت لأنه يعرف مساره بدِقَّة، إنه يعرف نقطة البداية ونقطة النهاية، ومَن يَعرف طريقَه لا يلتفت أثناء سَيره. قد يكون الإنسانُ حزينًا، ولا يَعرِف أنه حزين، هُنا تتجلَّى مُتعة الاكتشاف، وتتَّضح أهمية العثور على المُدهِش في العناصر اليومية. وكما تنبعث طاقة هائلة من انشطار الذَّرَّة الصغيرة، سينبعث معنى الحياة من انشطار قلوبنا الصغيرة، هذا القلبُ الصغيرُ الذي يضخُّ الدماء في أنحاء الجسد، يَمتلئ بالحزن والمَوت، لكنَّه يبثُّ الفرحَ والحياة في الجسد، والجسدُ هو العالَمُ الصغير الذي يُلخِّص تفاصيلَ العالَم الكبير الذي نعيش فيه، ونترك بصمتنا في تفاصيله، ونرحل عنه إلى غَير رَجعة.