«وحيدا في امتداد خطاك»، عنوان لمجموعة شعرية اختار مبدعها الشاعر السعودي «فاضل الجابر» أن تلقي تساؤلاتها الفلسفية الواسعة على مساحات أكثر اتساعا من الخيال، في ظل لغة ثرية بالصور والمفردات التي تجمع بين البساطة والأناقة وجمال الإيقاع الموسيقي على امتداد 111 صفحة من الحجم المتوسط. هذا ما يكتشفه القارئ أول ما يصافح بصره العنوان الذي يجمع النصوص كلها تحت مظلته، ثم يتأكد له هذا الاكتشاف خلال رحلته بين 25 عنوانا هي: أمد من الفقد/ شهقة قنديل/ اجتراح الوهم/ احتراق/ ضجيج المسافة/ كائن اللا شكل/ أجف عني/ جهات العدم/ الأنقاض/ ما أسرجه الدمع/ الخيال: قلق المرايا/ الأباطيل/ مسالك الوحشة/ متلازمة الأرق/ راوي الشك/ متلازمة الغياب/ حانة الوقت/ اعترافات/ أحلام في مهب الهوى/ أمضي إلى المجهول/ وطن/ معقود بالمسك/ الملاعين/ الجحيم: أناااااااي/ ابك وحدك ثم ابتسم. صراع الفلسفة والعاطفة! تصطخب المشاعر الإنسانية في عمق بحور النصوص الشعرية مسلطة أضوائها على الحب، الخوف، الألم، الندم، الضعف البشري، الأحلام المجهضة، ومضات السعادة الداخلية، القهر، مرارة الفقد، الغربة الروحية، الأوهام، بوارق الآمال المتأرجحة بين اليأس والرجاء والخذلان من ماضٍ يعود إلى الروح على أطراف الذكريات في إطار من التساؤلات ومحاولات الإجابة عن علامات استفهام الغموض الكوني وسبر أسرار النفس البشرية، فنرى الشاعر يطلق أحد تساؤلاته القادمة من عالم الأزل في نص «ضجيج المسافة» ص 21 بقوله: «أي معنى هو العمر إن صار فوتا؟! وكيف يدونه ترجماني؟». وسرعان ما ينصت القارئ بوجدانه لإجابة الشاعر عن أحد تساؤلاته الذاتية بقوله في نص «جهات العدم» ص 38: «نقش على كف الخيال أنا وأنت حقائق فرت فطاردها الخيال شك يسيل على الجهات وأنا أرمم كل بارقة لعل وراءها يأتي احتمال» ولا تغفل نصوص المجموعة كيان «المرأة» كملهمة للحياة، والشعر، وصورة من صور فلسفة الوجود.. فهي المحبوبة القادرة على استيقاف الزمان في ومضة إحساس كثيفة كما في نص «أمد من الفقد»، وهي القادرة على تغيير فصول الروح واستحضار فصول عاطفية جديدة كما يؤكد نص «شهقة قنديل»: «فأواه من لي إذا ما تجافت دروب الهوى عن خطاي.. وما اجتزت خوف التلعثم بالحرف عند لقاك وعاجل مغرب حرفي شروقه فأندبني في بقاع الضياع: قصائد وجد أبعثرها في الجهات السحيقة... ص 12». ومن زاوية رؤية أخرى ينظر الشاعر للمرأة ك«قضية»، وكفكرة مجردة يستحق جوهرها الإنساني رؤية تتسامى على قشور التجميل المصطنعة، ولعل أبرز ما نم عن تلك الرؤية ما جاء في نص «ضجيج المسافة»: «مدى فارغ منك.. مذ كان حتما عليك التلاشي بفعل السنين مذ كان حتما عليك تلاشيك بفعل قناع المزيف: قيراط ماس، أساور من لؤلؤ، واحتفال يدور برسغك أو كرنفال الخلاخيل بالرقص في مهرجان اللجين» ص 22 هموم ذاتية إنسانية! يلاحظ القارئ أن معظم النصوص محفوفة برائحة حزن إنساني منبعه هموم الإنسان الأزلية بوجه عام، وهموم الإنسان الشاعر بوجه خاص، منطلقا من المضمون الأضيق إلى المعنى الأكثر اتساعا، ويمكننا أن نلحظ ذلك جليا في نص «احتراق»: «وحيد والمدى المخنوق بي يمتد يعزلني عن الناس، عن الأحباب، والأصحاب، عني في ارتباك البوح لو خنقته أنفاسي كأني في ارتجال صاغه الإلهام، منحوت على صخر صقيل... ص 17». أو كما في نص «جهات العدم»: «ها ملء قلبي غصة أودت بمملكة الكلام إلى الزوال» «غرباء عنا لا نزال.. فلا نزال على مدارج بؤسنا نمضي، كأن العام مر بدوننا، متعثرين ببعضنا، نمضي نعالج سطوة الأحداث في تدبير وجهتنا فيدركنا المحال... ص 37» لكن تلك الرؤية تنطلق من أرض الحزن إلى فضاءات من الحكمة التي أنضجتها سنين التجارب، فنلحظ ثقة بضرورة حفاظ المرء على أسراره في نص «الأباطيل»: « والسر لو يدري به شخصان صار معرضا للفتك، أجدى أن أكفنه وأقبره فأزوره إن شئت أو أنساه تحت وصاية الأيام؛ لكن أن أبوح به؟! فكمثل من يوصي الرياح على البخور!... ص 53» بينما يقدم لنا نص «كائن اللا شكل» صورة درامية من صور استشفاف حقائق النفس البشرية التي تتجلى في قول الشاعر: «علمت حق العلم أن كلامهم لم يعد إلا نغمة عزفت على وتر الضغينة!.... ص 27» لكن معاناة الإنسان الواقعية لا تقف في وجه الأحلام الكبيرة التي إن لم تصنع واقعا ملموسا أجمل؛ فستصنع مقدرة على مواجهة هذا الواقع: «وعلى غارب أحلامي تركت الحبل... ص 80»، ليبقى الحدس والمشاعر الروحانية من روافد الأمل في رحلة الكائن البشري نحو مجهول المستقبل، كما يؤكد نص «جهات العدم» بقوله: «للقلب بوصلة ترتب رحلة المجهول في العدم الخفي... ص 39». وبهذا تكتمل ثنائيات الحياة من أحزان وأفراح، تساؤلات وإجابات، خيبات وطموحات، وغيرها على أرض الشعر بين صفحات المجموعة، مقدمة بهذا تمازجا فريدا بين الفكر والأحاسيس العميقة.