كتابة المصحف الكريم هي عمل عظيم ومفخرة لكل من وفقه الله لتحبير كلام الله عز وجل، وقد تشرف بكتابته أولًا الصحابة في عهد النبوة والرسالة، ثم بعد ذلك جمع عثمان الخليفة الراشد - رضي الله عنه - على مصحف المسمى بالرسم العثماني وإجماع الصحابة عليه، ومن ذلك التاريخ والنسّاخ يكتبون على الرسم العثماني مع تطوره على مر التاريخ حتى وصل إلينا مخدومًا من قبل علماء الرسم العثماني، واشتهر كثير من الأمة بكتابة المصحف العثماني، ونال هذا الشرف الأسمى الشيخ الخطاط المؤرخ المكي محمد طاهر الكردي -رحمه الله-. ومحمد طاهر بن عبدالقادر الكردي ولد في مكة عام 1321ه، ومن حسن الحظ أنه كتب سيرته بقلمه في كتابه (التاريخ القويم) وهو يقول: "إنه تعلم في مدرسة الفلاح"، تلك الجامعة الفريدة التي خرجت كثيرًا من العلماء والأعلام وأصحاب القلم والفكر من أهالي مكة، فتخرج فيها هذا المؤرخ، وتلقى من أساتذتها العلوم التي كانت تدرس فيها، وحصل على شهادة المدرسة عام 1339ه، ثم سافر به والده الشيخ عبدالقادر الكردي إلى مصر ليكمل تعليمه؛ حيث الجامعة العظمى الأزهر، وذلك سنة 1340ه، وكانت له سيول في الخط العربي وبعض الفنون، لهذا انضم إلى مدرسة تحسين الخطوط العربية الملكية، فنمّى موهبته التي كان من أعظم وأجل ثمرتها تشرف يده بكتابة المصحف، ويا له من فخر، ولمثل هذا يفخر الخطاطون عبر تاريخ الخط العربي، كذلك تعلم فن زخرفة الخطوط والمذهبة، ونمى موهبته التي كانت كامنة في أعماقه، وأصبح من معلمي وأساتذة الخط، كما أنه امتلك موهبة الرسم التشكيلي، وقد رسم لوحات فنية ونشرها في كتابه (التاريخ القويم). عالم وخطّاط ومن أشهر صفات المؤرخ محمد طاهر الكردي - رحمه الله - أنه خطاط، واشتهر بهذه الصفة، وكتب كثيرًا من الخطوط البديعة، وأتقن أنواع الخطوط العربية، وقد تلقى الخط على أساتذة في الخط العربي في مصر، ثم درّس الخط العربي فيما بعد، ويقول صديقه الوفي المؤرخ محمد علي مغربي - رحمه الله - في كتابه (أعلام الحجاز) في ترجمته للخطاط محمد الكردي: كان مدرسًا للخط العربي في مدارسها "مدارس مكة"، بل هو الأستاذ الأول في مدارسها، وله كراريس "مناهج الخط" مطبوعة كما يظهر ذلك من ثبت مؤلفاته التي كانت توزع على التلاميذ من ضمن الكتب المدرسية، لينسجوا على منوالها في تعلمهم لفن الخط، ويضيف: لقد بلغ من إتقان الشيخ محمد طاهر لفنون الخط، أنه كان يكتب بعض قصار السور، مثل سورة الإخلاص على حبة من الأرز أهداني بعض هذه الحبات من الأرز المكتوب عليها بعض قصار السور، وقد تحدث المؤرخ المغربي عن رسوخ الخطاط الكردي في الخط العربي، وأنه - رحمه الله - ليس خطاطًا وحسب، بل عالمًا من علماء تاريخ الخطوط العربية والنقوش القديمة سواء كانت صورًا أو كتابات، وكانت هذه المعلومات الغزيرة التي حوتها عقلية هذا العبقري في الخط العربي من خلال القراءة المنهجية وكذا الحرة للخط، التي كانت متناثرة في كتب التراث العربي والاستقراء التي نتجت عن هذه القراءات الفاحصة والاطلاع الواسع والممارسة الدقيقة للخط، كل هذه أنتجت مؤلفات في الخط العربي، وقد ألف منذ وقت مبكر كتابًا نفيسًا وقيّمًا وفريدًا عن الخط العربي الموسوم (تاريخ الخط العربي وآدابه)، وقد نشره عام 1357ه - 1939م وهو مرجع لكل من أراد تاريخ الخط العربي، يقول عنه المؤرخ العراقي علي جواد الظاهر في كتابه (معجم المطبوعات): "إنه كتاب تاريخي اجتماعي أدبي". موهبة مكية ونقل علي جواد عن مجلة المنهل إشادة بالخطاط محمد طاهر الكردي - رحمه الله - حيث كتبت المجلة ما نصه: يعتبر الكردي الذي توفي في مكةالمكرمة أحد الخطاطين البارزين في العالم العربي وكتابه (تاريخ الخط العربي) له أهمية تتمثل في الريادة والشمولية، فالخطاط الكردي يعد أحد جيل الرواد في الخط العربي، وهو مدرسة خرّجت نخبة من الخطاطين السعوديين، ولقد امتلك ناصية الخط العربي مبحرًا في أنواع خطوطه، ولا شك أنها موهبة، بل مواهب منحها الله عز وجل لهذه الشخصية المكية، وسخر هذه الموهبة فيما ينضح ويفيد التراثين العربي والإسلامي؛ لأن الخط من العلوم النافعة التي تستمر بعد وفاة صاحبها إذا استغلت فيما يثمر ويدعم مكتبة الخطوط العربية، فكل حياة الخطاط الكردي كانت للعلم والمعرفة والتاريخ، ولم يذكر عنه عارفوه أنه استغل هذه المواهب المتعددة في نيل الجاه والشرف والمال، فهو زاهد فيها، همه مطلبه، وغايته تزويد المكتبة الإسلامية بكل أثر علمي يستفيد منه العلماء وطلبة العلم والمثقفون والقراء عامة، لذلك لما كان مولعًا بالخط العربي؛ ألّف مؤلفات عن الخط العربي وعدّدها صديقه المؤرخ المغربي في كتابه (أعلام الحجاز). نسْخ القرآن الكريم وقال الخطاط المؤرخ محمد طاهر الكردي حينما انتهى من نسخ القرآن وطبع هذا المصحف: وإن أعظم شيء عمله المذكور - يتحدث بلغة الغائب - محمد طاهر كردي المكي الخطاط هو كتابته لمصحف مكةالمكرمة ليرجو الله تبارك وتعالى أن يجعله عملًا مبرورًا خالصًا لوجهه الكريم، وأن يتقبل الأعمال، هذه كلمات وجمل الخطاط محمد طاهر الكردي في كتابه الموسوعي (التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم)، كلمات صادقة تفوح منها رائحة الحب والإخلاص، حينما نسخ القرآن الكريم، الذي انتشر بين المسلمين، وطبعت آلاف من النسخ في مكةالمكرمة، فضلًا عن الحجاج والمعتمرين الذين يصحبونه معهم عندما يسافرون إلى أوطانهم ثلاثة عقود وأكثر من الدهر، ومصحف مكة الذي نسخته هذه اليد الكريمة هو أعظم علم نافع خلفه هذا الخطاط، نال أجره وهو في حياته وبعد رحيله عن هذه الفانية. ولقد ألف المؤرخ والخطاط أربعين مؤلفًا في مختلف العلوم الشرعية والتاريخية والأدبية، لكنه لم يعتز إلاّ بنسخ القرآن، يقول صهره –زوج ابنته - د.عبدالوهاب أبو سليمان في بحثه الشيق بعنوان: "العلامة محمد طاهر الكردي ناسخ مصحف مكة": محور اعتزازه - أي الكردي - هو نسخه المصحف الشريف، منوهًا بهذا ما أتيحت له المناسبة، وهو عمل جدير بذلك، ومن مظاهر هذا الاعتزاز أنه في كتابه الموسوعي (التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم)، الذي يقع في ستة مجلدات ضخمة، يذيل في صفحة الغلاف بالعبارة التالية: كاتب مصحف مكةالمكرمة، نسبة عظيمة لهذا الشرف، حيث خلد هذا العمل الجليل ذكره بعد وفاته، وهي علامة بارزة في تاريخه العلمي. قصة الكتابة وقصة كتابة المصحف يرويها صديق الكردي المؤرخ محمد علي المغربي في كتابه (أعلام الحجاز)، وملخص القصة أن محمد طاهر الكردي عرض فكرة النسخ على الشيخ الأديب محمد سرور الصبان - رحمه الله - فوافق عليها الشيخ الصبان، وقال: "ليتك تنسخ هذا المصحف وتقدمه هدية للملك عبدالعزيز"، فاقترح الخطاط الكردي أن يطبع هذا المصحف لتعم الفائدة، وتهدى أول نسخة للملك عبدالعزيز، وقد مكث الخطاط محمد طاهر الكردي ثلاثة أعوام على نسخ القرآن، وكان المتعهد بالطبع يستعجل الكردي على السرعة، لكن الخطاط الكردي يقول: "الخط عمل فني مثل الرسم والشعر والكتابة، والفنان لا يقوم على ممارسة فنه إلاّ إذا تهيأت له الأسباب النفسية أولًا، وإنني لا أستطيع الإقدام عليه إلاّ وأنا في حالة نفسية متهيئة التهيؤ الكامل"، المهم أن الخطاط محمد طاهر الكردي انتهى من نسخ المصحف، وشكلت لجنة بأمر الحكومة بعد الطلب منها، وتألفت هذه اللجنة وهي مكونة من الشيخ عبدالظاهر أبو السمح - إمام الحرم المكي - والشيخ صالح حجازي - شيخ القراء بمكةالمكرمة - وأعضاء من وزارة المعارف هما إبراهيم النوري ومحمد شطا، وانتهى عمل اللجنة وعرض المصحف على الملك عبدالعزيز بعد الانتهاء، فشكر القائمين على هذا العمل وكافأهم عليه، ثم سافر محمد علي مغربي إلى مصر لإعداد الطباعة، ولعرض المصحف على الأزهر ليكون معتمدًا في العالم الإسلامي. وحكى المؤرخ مغربي قصته مفصلة عن كيفية وضع آلية الطبع، وكانت في تلك الأيام قد صادفت زيارة الملك عبدالعزيز، وكانت الأمور كلها قد تيسرت في وجه المؤرخ محمد علي مغربي القائم بطباعة المصحف، وأتى بالمصحف إلى مكة، ولهذا العمل العظيم تأسست شركة مصحف مكة بعد جلب مطابع حديثة من أميركا، وكان أول منشور لهذه الشركة هو هذا المصحف، وتمت الطباعة بنجاح، وجسد المؤرخ محمد علي المغربي سروره بهذا الإنجاز الكبير لطباعة أول مصحف في مكة بيد أول سعودي من مكة، وقال: وهذه السابقة التاريخية العظيمة هي التي اختص بها الله الشيخ محمد طاهر الكردي؛ لأنه كان الخطاط الذي كتب القرآن الكريم في مكةالمكرمة، وهيأ الله تعالى لهذه النسخة التي كتبها أن طبعت في مكةالمكرمة ونشرت منها لها، وفي المملكة العربية السعودية، ثم في سائر بلاد الإسلام، فمصحف مكةالمكرمة أصبح يطلب في جميع البلاد الإسلامية من إندونيسيا وباكستان والشرق الأقصى كله إلى إفريقيا كلها، ولقد مضى على تأسيس شركة مصحف مكةالمكرمة ما يقارب 40 عامًا، وهي توالي نشر الكتاب الكريم في مكةالمكرمة وتستورد له المطابع الواحدة تلو الأخرى مسايرةً لتطور الطباعة في العصر الحديث.. - انتهى ملخص من كلام المؤرخ المغربي -، وجزى الله خيرًا على جهوده وحرصه وبذله بكل ما يستطيع من إمكانات في سبيل نشر مصحف مكة بأفضل صورة وإخراج جميل. تاريخ مكة عمل ضخم يأتي بعد نسخ الخطاط المؤرخ محمد طاهر الكردي - رحمه الله - للقرآن الكريم، فهذه الموسوعة التي أطلق عليها هذا المؤرخ عبقري الخطوط الكردي (التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم)، الذي مكث عشرات السنين، وهو يدون هذا التاريخ العظيم لأطهر بقعة على وجه الأرض، وقد طبع الجزء الأول عام 1386ه ونعلم أنه بدأ بالكتابة - كما يقول - 1375ه في شهر شعبان عندما بدأت الحكومة بالبدء في توسعة الحرم المكي، وبعدها توالت طباعة الأجزاء الثاني والثالث والرابع في حياته، وطبعت بقية الأجزاء بعد وفاته، وقام د.عبدالملك بن دهيش وهو باذل ماله في سبيل نشر الكتب وتأليفها - رحمه الله - في نشر هذا الكتاب، والإشراف على طباعته في أجزائه كلها في ثلاث طبعات متواليات، وقد أهداني ابنه الباحث محمد بن عبدالملك بن دهيش، الذي سيقوم بإعادة نشر هذه الموسوعة الضخة الهائلة مرة أخرى في تحقيق يليق بهذا الكتاب الأعجوبة في بسطه وصبر مؤلفه في إعداده، والباحث محمد بن دهيش مثل والده في البحث عن تاريخ وعمارة المسجد الحرام وفقه الله لكل خير، والمقصود أن المؤرخ محمد طاهر الكردي استنفر كل طاقة علمية وفنية في تأليف هذه الموسوعة التي تعد من أكبر الموسوعات في تاريخ مكة وبيت الله الحرام، لم يترك شاردة ولا واردة في هذا التاريخ إلاّ ذكره، وكل الأحداث والتغير الاجتماعي في مكة وثّقه الذي عاصره وشاهده، فهذه الموسوعة شاملة وجامعة تغني عن غيرها من تواريخ مكة وغيرها لا يغني عنها. وقال المؤرخ محمد علي مغربي عن هذه الموسوعة والكتاب: موسوعة ضخمة في أربعة أجزاء، في كل جزء ثلاثمائة صفحة، ويستطرد قائلًا: وأهم من هذا وذاك أن المؤلف أُتيح له ما لم يتح لغيره من المؤلفين، فقد عاصر الإصلاح الذي تم للكعبة عام 1377ه، كما عاصر توسعة المسجد الحرام التي بدأت في عهد المملكة العربية السعودية، ولم يكن المؤلف معاصرًا وإنما كان عضوًا في اللجان الرسمية التي تألفت لهذه الإصلاحات، وذلك لاهتمامه بالمباحث التاريخية المتعلقة بالمسجد الحرام، فقد ألف قبل هذه الأحداث مؤلفًا عن تاريخ مقام إبراهيم عليه السلام. وأكد د.عبدالوهاب أبو سليمان أهمية هذا الكتاب الفذ ومكانته العلمية، قائلًا: وكتابه (التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم) موسوعة تاريخية واجتماعية وأدبية عن مكةالمكرمة، جمع فيه معارف شتى، وهذه المدونة التاريخية بالطريقة التي سلكها المؤلف - رحمه الله - هي مادة علمية جيدة، أرخ فيها ما أغفله التاريخ، وهي صالحة لأن يستخرج رسائل علمية متعددة الجوانب، خاصةً في النواحي الاجتماعية، رحم الله المؤرخ محمد طاهر الكردي على صنيعه هذا في هذه الموسوعة، التي هي حسنة من حسنات الدهر بأن سخر الله لها هذا الرجل الذي يعد عمله عملًا مؤسسيًا، فقد كتبه وحده مؤمنًا بأن تاريخ مكة والبيت الحرام يستحق أعظم الجهود والتضحيات من أجله وغيرها من المؤلفات. 40 مؤلفًا وألّف المؤرخ والخطاط محمد طاهر الكردي - رحمه الله 40 مؤلفًا نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: التفسير المكي، ويقع في عدة أجزاء، وكذلك مؤلفات في الخط العربي؛ فقد نسخ كتبًا أشهرها تاريخ الخط العربي، وكذلك كتب عن الرسم العثماني بعنوان: تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه. كانت جمعية الثقافة والفنون قد عزمت على تكريم المؤرخ الخطاط محمد طاهر الكردي قبل وفاته بشهور، وحُدد التكريم في شهر رجب، لكن الأجل وافاه بتاريخ 23/ 4/ 1400ه، وإن لم يكرمه البشر فسيكرمه الله عز وجل بواسع فضله ورحمته وكرمه، اللهم ارحم عبدك محمد طاهر الكردي وأكرم نُزله. المؤرخ والخطاط محمد الكردي في منى وهو يرتدي العمامة الحجازية – الثاني يمينًا - صورة التقطها محمد طاهر الكردي لصلاة الجمعة في الحرم المكي عام 1372ه أول مصحف كتبه خطاط سعودي هو محمد طاهر الكردي وطُبع في مكةالمكرمة من مؤلفاته: كتاب التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم