يبصر الإنسان النور وعقله محاط بظلام الجهل إلا ما ألهمه الله من إضاءَات الفطرة حتى يعتمد على نفسه ويصل للحقيقة من خلال قدرات الإدراك التي منحه الله إياها، ويبدأ رحلته يستقي من معين محيطه، والثقافة المسيطرة على مجتمعه. وأخطر ما يواجه العقل البشري في رحلة التعلم هو التقوقع الثقافي في محيطه وخوف الخروج منه؛ فلا ينفك عقله من قبضة الموروث، وأحكامه يقول المفكر العراقي علي بن الوردي: »إن الذي لا يفارق بيئته التي نشأ فيها، ولا يقرأ غير الكتب التي تدعم معتقداته الموروثة؛ فلا ننتظر منه أن يكون محايدًا في الحكم على الأمور». إن عيش الإنسان في المألوف، وخوفه من كل جديد ناتج من ثقافة الفكر الأحَادِي التي ترى نفسها الأفضل في كل شيء؛ فتبقى معزولةً عن كل تطور تعيش في برج عاجٍ من الوهم المعرفي، وللمفكر المصري عبدالوهاب المسيري كلام جميل عن هذه الحالة البعيدة عن إعمال العقل يقول بضمير المتكلم: «نحن لا نعرف الشيء في حد ذاته، بل نعرفه في علاقته بشيء يشبهه، وآخر يختلف عليه». والتقوقع الثقافي هو مرتع خصب للعنصرية بكافة أشكالها، والتبعية العمياء التي تعبر عن نفس جاهلة محصورة في دائرة ضيقة لا يخرج منها إلا المتشابهات، والنسخ المكررة. إن الثقافة الواحدة تجعل المتقوقع داخلها إنسانًا متوجسًا، منغلقًا يضيق ذرعًا بأخيه يحصر نفسه بإطار اجتماعي معين يُقصي الآخر، أو أيديولوجيا حزبية مُنغلقة؛ فالفكر المتطور ينطلق مع كل تنوعات بلده الثقافية في ما يصب في مصلحة نمو وطنه، وتطوره. والانفتاح الثقافي من سمات المجتمع المتعافي ثقافياً كما هو حال الدول المتقدمة سواء كان منبعه عرقيًا، أو إقليمياً، أو حتى مذهبياً؛ بل إن الفكر الواعي يمتد قبوله الثقافي إلى مستوى الدول، والحضارات حيث يعيش متسامحًا مع غيره ولو اختلف معه محافظًا على هوياته الكبرى، ومتحررًا من برمجة محيطه الضيق. ويعتقد بعض فقراء المعرفة أن التقوقع على نفس الثقافة يحافظ عليها وهذا بلا شك جهل وبعد عن الواقع؛ فالحفاظ على الثقافة، والهوية لا بد أن يواكبه تطوير لها وليس التقوقع إنما الاختلاط بالثقافات ومواجهتها بثقافة راسخة قوية تأخذ من الثقافات ما يساهم في تقدمها، وبقائها وتحافظ في نفس الوقت على أصالتها، وقيمها الراسخة. فلننطلق إلى فضاء الثقافات بقوة ثقافتنا، وأصالتها؛ بل علينا أيضًا أن نُصدر ثقافتنا للعالم ونساهم في رسم صورة جميلة عن وطننا الذي هو واجهة الإنسان العربي المسلم، ونحيد العقول المُتحجرة عن مشهدنا الثقافي تلك العقول التي لا تملك ملكة استشراف مستقبلها، ولا مستقبل بلدها.