أعرفُ عددًا هائلاً من الكلمات، ومعرفة واسعة في الُمثل، وقدرًا كبيرًا من جلال المعاني. لقد دفعت نفسي دفعاً وحبستها لقراءة معظم التجارب الشعريّة الأصيلة، يقينًا مني أن الشّعر "إصغاء على نحو مباشر لصوت الكينونة". وقد تأملتُ مجمل ما تفوّه به الفلاسفة في التاريخ القديم والحديث، من لدن حِكم بؤثيوس وهو يتمتم في ظلمة سجنه البارد منتظرًا الموت، وتأملات ماركوس أوريليروس وهو على عرش الحكم، حتّى حدوس والتماعات المدارس القاريّة الحديثة. ثمّ إني سعيت في الأرض وشققتها بأقدامي، فصعدتُ جبلًا صخريًا في النرويج، وهبطت وادياً عميقًا في الهند، وتلوت المراثي على جدران قصر الحمراء، وعلق جسمي في قناة ضيقة في كهوف جنوب أفريقيا. لكن، وبكل أسف، إن شيئاً من هذا لم يكن ليروي ظمأ الروح التي تريد أن تخفّ وتشفّ وتعلو في الأثير حتى تبصر أصلها، ولم يكن كافيًا للقلب الذي يروم أن يتطهّر كي يبصر ويشاهد. كان من الممكن، وعلى نحو دائم، أن ألوذ بالإيمان الساكن الخالي من حرارة الاعتقاد، ودون أن تتعرض لزلزلة الأسئلة، وأن تحفظ عقلك دون أن تمشي عليه مباضع الفكر فتتركه دامياً، لو كنتُ ممن سمع عن قرب موعظة الجبل فيعيش زاهدًا متقللًا في الطرقات والزوايا ينتظر الأجل بفرح وبهجة. لكنّ شيئاً من هذا لم يحدث. لذلك، أردتُ بصيرة ترى غير ما رأت العيون، ومن الأصوات غير ما طرق المسامع، ومن الكلمات غير التي تسيل من الأفواه فتتلاشى وتذوب معانيها. لم يكن بالجوار ثمّة أمّ حنونة حكيمة مبصرة متبحرة في المعارف، غوّاصة في الدقائق، لتبتهل إلى الله كما فعلت أم كلكامش نِنسون لتقول: "لماذا عندما أعطيني كلكامش ابنًا، وهبته هذا القلب القلق؟" ولكنني لا أسميّه قلبا قلقًا، بل أقول هو قلب اعتصره ألم الخلود. ويخبرنا الزمخشري في متنه اللغوي المرصع بالحكم "الكلم النوابغ" بأن "الليالي ما خلّدت لِداتك، أفتخالهنّ مخلداتك؟" آخذًا بيد المريد إلى الخلاصة من كلّ هذا الكَبد والمرارة. ومحاولًا إخماد نار الرغبة والتوق إلى الخلود، بقناعة تامة يتلو علينا الأعشى نبأ من جرفهم طوفان الدهر قبلنا، وأنك أيها الطالب لما لا ينُال لن تُجاب وإن كثر المال وطاب الحال، فلن تكون أفضل حالًا من ساسان ملك الفرس، ولا من مورق ملك الروم،" فما أنت إن دامت عليك بخالدٍ* كما لم يخلّد قبلُ ساسا ومورقُ". ولكن، وبعد هذا كلّه ورغم الألم، أليس الفناء هو ما يهب للحياة المتصرمة معنى؟ ألا يجعلنا هذا الهاجس الأعمق في محاولة مستمرة ولهاث دائم نحو الغاية المستورة خلف كلّ هذه الحُجب والسواتر؟ أليست هي ما تدفعنا نحو العمل؟ إن طرفاً من الإجابة يمكن أن نجده في تجربة الرحّالة محمّد المقدسي، وهو الرجل جاب الأرض وخبر الناس، وحدّق فرأى، في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" يخبر متحدثاً عن نفسه" قد تفقّهت وتأدبتٌ، وتزهدتُ وتعبدتُ، وخطبت على المنابر، وأذنت على المنائر وأممتُ في المساجد. وأكلت مع الصوفيّة الهرائس، ومع الخانقائيين الثرائد. وسحتُ في البراري وتهتُ في الصحاري، وصدقت في الورع زمانا، وحملت على رأسي بالزنبيل، وأشرفت مرارا على الغرق، وسُجنتُ في الحبوس وأُخذتُ على أنّى جاسوس، ومشيت بين السمائم والثلوج، ونزلت عرصة الملوك بين الأجلّة، وسكنتُ بين الجهّال في محلّة الحاكة.. وجلست في البلاد ودخلت أقاليم الإسلام ولقيت العلماء وجالست القضاة واختلفت الأدباء والقرّاء وكتبة الحديث وحضور مجالس القصّاص.." وسوى المقدسي الكثير من قام بأكثر وأعمق من هذا، والسؤال يظل حائراً، علام يدلّ هذا التولّع في التجارب وكثرة الولوج في المسالك؟ نبسط الحديث قريبًا عن المعنى والنّور والإيمان، وما يقود إليهما.