يتجدد الاهتمام البريطاني بملحمة كلكامش هذه السنة بعد أن عثر في ألواح المتحف البريطاني على نصوص جديدة عكف الباحثون على فك رموزها وتقديمها الى القراء، في وقت يستعد أندرو جورج أستاذ كرسي الاشوريات في جامعة لندن لنشر نص جديد للملحمة سيصدر في شباط فبراير المقبل عن "دار بنغوين" وهي من بين أكبر دور النشر البريطانية. وأسطورة كلكامش كانت وما زالت من بين أكثر النصوص الأدبية التي تجذب مستمعي القص الملحمي والشعبي في انكلترا، في لقاءات تشبه فعالية الحكواتي وهي أقرب الى مهرجانات الشعر والمسرح المصغرة أو الموسعة. وهناك بين القصاصين من أمضى مرحلة مهمة من نشاطه في التدرب على نصوص ملحمة كلكامش وتقديمها الى الجمهور. وفي أمسية لافتة قدمت فران هزلتين وجوان بيترز في "الكوفة كاليري" في لندن مختارات من الجزء الأول لنص أندرو جورج الجديد المترجم عن الأسطورة، في طقس جميل عزفت خلاله جوان على القيثارة السومرية بين المقاطع، وأبحرت البريطانيتان مع الجمهور الى تلك السنوات الغابرة بين أداء موح وتجاوب وجداني عميق مع وقائعها. وتقول جوان بيترز مديرة فرع جمعية القصاصين في لندن عن تجربتها مع الملحمة: "ان أهم التحديات في نص كلكامش هو الأصوات التي تكمن داخله منذ عهود سحيقة، كيف نستطيع استيعابها وعكسها على مستمعين معاصرين ينبغي لنا أن نجعلهم يتجاوبون مع السرد بما يكمن فيه من غموض التاريخ وجلاله". معظم الحضور كان من الانكليز، والمكان العراقي بزخارفه يقربهم من أرض كلكامش التي زاروها مع صوت القص في زمن استغرق ساعات قليلة ولكنها كانت كافية لكي تفتح بوابة المخيلة المفضية الى عالم الأسطورة الساحر. كل ما في أسطورة كلكامش من أحداث ووقائع وأفكار يبدو سجلاً قابلاً للقراءة مرات ومرات. فهذه الملحمة الخالدة التي لم يكتشف الانسان حتى اليوم ما يسبقها من الملاحم عمراً، هي من الغنى والتنوع ما يجعل قارئها المعاصر يقف باستمرار معجباً بأبعادها الحضارية المتنوعة والمتشابكة. وفي كل الملاحم اللاحقة نستطيع أن نعثر على تقليد لأفعال البطولة في هذه الملحمة ولنمط شخصياتها ومغامراتها. فهرقل واخيل والاسكندر ذو القرنين وأديسيوس وغيرهم من بين النماذج التي تابع الباحثون عبرها مصادر أخذ الاداب الأخرى من أدب العراق القديم، اضافة الى ما استعارته النصوص الروحية من قصص وحكايات، ومنها قصة الطوفان وأسطورة اتراحاس التي وردت في التوراة. وكما يقول طه باقر أستاذ الحضارات القديمة في العراق ومترجم نص كلكامش الى العربية انه لو لم يأتنا من حضارة وادي الرافدين من منجزاتها وعلومها وفنونها شيء سوى هذه الملحمة لكانت جديرة بأن تبوأ تلك الحضارة مكانة سامية بين الحضارات القديمة. دونت هذه الملحمة قبل 4000 عام ولم يعرف الى الآن واضع نصها الأول ولا الذين تتالوا بعده في تطوير هذا النص عبر عهود السلالات السومرية التي تعاقبت على أوروك والممالك التي تبعتها، الاكدية والبابلية والاشورية. غير أن الجسد الأهم والأكبر لهذا الأثر الخالد وجد في دار كتب الملك الاشوري أشور بانيبال 668 - 626 ق.م ويتألف من اثني عشر رقيماً طينياً، كل واحد منها مقسم الى ستة حقول ويحوي نحو 300 سطر، وعنوان الملحمة في تلك المخطوطات "هو الذي رأى كل شيء". وأول اكتشاف لها كان في حفريات المدن العراقية الشمالية في منتصف القرن التاسع عشر، وحسبما يورد طه باقر لم يفطن الى أهمية هذا الاكتشاف الا في العام 1872 حين أعلن جورج سميث تفصيل قصة الطوفان التي وردت في الملحمة في محاضرة القاها على الجمعية الاثارية للتوراة في لندن، فأثارت ضجة وحماساً بالغين في العالم ما حداً بجريدة "ديلي تلغراف" الى ان تتبرع بألف جنيه لينفقها جورج سميث في مواصلة الحفر في خرائب نينوى، ونجح في العثور على ألواح أخرى نشرها قبل وفاته المبكرة. ثم تتالت المكتشفات لألواح الأسطورة في المدن العراقية المختلفة ومنها اوروك ذاتها موطن كلكامش بطل القصة، وامتدت الى سورية حيث وجدت رواية قصيرة للطوفان في النصوص المسمارية في اوغاريت القديمة، وفي مجدو فلسطين عثر على كسرة يعود عهدها الى القرن الرابع عشر ق.م، حين انتشرت تلك المأثرة بين العبرانيين. لم يعرف الشاعر الذي كتب النص الأول للملحمة ولا الشعراء الذين استكملوها أو أعادوا كتابتها في اللغات المختلفة، فأسطورة كلكامش دونت بكل اللغات التي مرت على حضارة بلاد الرافدين: السومرية والاكدية الأصلية وصيغتيها الاشورية والبابلية، واللغات الثلاث من جذر واحد أي السامية، في حين بقيت السومرية وهي لغة اوروك القديمة وملكها كلكامش لا يعرف الباحثون الى الآن مصدرها. عند قراءة نص طه باقر العربي المترجم عن البابلية، وهو النص الأقرب الى الأصل لوشائج القربى بين العربية والبابلية، يخطر في البال سؤال جدير بالانتباه، وهو هل استطاعت هذه الترجمة ان تقارب النص روحاً ومعنى ان قاربته لغوياً؟ حاول طه باقر ان يحتفظ بالكلمات ذاتها التي تؤدي المعنى نفسه بالعربية، وكما تناهى الى سمعنا ان هذا الباحث الجليل أصدر قبل موته في السنوات الأخيرة كتاباً أراد ان يكون ثبتاً بالكلمات المشتركة بين البابلية وبين العربية والعراقية المحكية في الملحمة. غير ان القارئ يقع في اللبس عند ترجمة الشعر على وجه التحديد، فليس من السهولة مقاربة النص روحاً ومعنى بعد مضي كل تلك الحقب على كتابته. وسنجد في ترجمة طه باقر ذلك الأداء النثري الذي لا تستطيع فيه الا ان تشعر بأن الفجوات فيه تتسع في لغة قوية، ولكنها تفتقد الى روح الشعر والى ايقاع الملحمة الذي نستطيع ان نتخيله ولكننا لا نمسك به عند قراءتنا النص العربي. وليس المفترض ان تكتب كلكامش شعراً كما فعل عبدالحق فاضل أحد أدباء العراق في مرحلة الأربعينات وفشل، ولكن غياب أجواء الشعر عنها يجعل منها ملحمة ناقصة في النقل الى اللغة الأقرب اليها. وان كان السؤال حول شعرية الترجمة العربية بقي معلقاً الى اليوم، فإن اندرو جورج مترجمها الى الانكليزية صاغ مقدمته عن هذه الملحمة باعتبار أهمية الشعر فيها. وعلى هذا، كان السؤال بالنسبة إلينا عن الاطار الشعري الذي وضعت فيه الملحمة. يجيبنا اندرو جورج: "لم أحاول إعادة كتابة الملحمة شعرياً، بل ترجمتها فحسب. فهي في الأصل مادة شعرية، ولكنني حاولت مقاربة عمود الشعر البابلي في وقت أردت أن أمنح الملحمة ايقاعاً انكليزياً يسهل الالقاء". درس أندرو جورج في السبعينات أدب ما بين النهرين وكرس عمله منذ العام 1985 لملحمة كلكامش، واشتغل على الألواح السومرية في المتحف البريطاني، كما درس كلكامش البابلية في متحف برلين والمتحف العراقي ومتحف الآثار في اسطنبول ومتحف الحضارات الأناضولية في انقرة ومتحف الجامعة في فيلادلفيا والمتحف الشرقي في شيكاغو. وكان السنة الماضية في بغداد حيث تعرف على نص غير ملحوظ كتب على قفا أحد الألواح المكتشفة في الوركاء، وفيه تفصيل عن حكاية أصطفاء ننسون أم كلكامش انكيدو الذي ليس من رحمها، ولداً تأتمنه على ابنها كأخ ورفيق سفر. وهو النص الذي ورد اصلاً ضمن ترجمات عدة للأسطورة، ولكن الجديد في النص الانكليزي حسبما يقول: "تفصيل لم يكن في الرقيم السابق للحكاية. واكتشاف الفراغات المفقودة في اللوح يعني الحصول على مزيد من المعلومات حول قضية انكيدو وتبني ننسون له. كل قطعة جديدة مكتشفة تملأ فراغاً وتضع أدينا على معلومات ومعارف نجهلها. ترجمت كلكامش في الأقل الى 16 لغة كما يشير اندرو جورج، وفي العقد المنصرم أضيفت ست الى 12 ترجمة ومن بينها اثنتان الى الانكليزية فما ضرورة هذا الاصدار الجديد؟ يعقب المؤلف: "جاذبية هذه الملحمة ما زالت راهنة منذ هوميرو ويوريبيدس وفرجيل وهوراس وصولا الى فولتير وغوته. فكل النصوص الكلاسيكية التراثية والمعاصرة كتبت تأثراً بكلكامش وأدب ما بين النهرين. منذ سبعين سنة حصلنا على أقل من أربعين مخطوطة من النص المنظم وهناك فجوات واسعة في القصة، الآن لدينا أكثر من ضعفيها ومع فجوات أقل". كانت فيونا ويلنز احدى الضليعات في قراءة نصوص كلكامش أمام الجمهور، تتحدث في جلسة خاصة عن المعني المضاد للبطولة في الملحمة، فهي تقول: "ان كلكامش توصل الى البحث عن الحكمة بدلاً من البحث عن الخلود ولم يكن منتصراً في معركته ضد الموت". وفيونا أول حكواتية بريطانية سمعتها وهي تروي جزءاً من الملحمة قبل ثلاث سنوات. كان ثمة فتنة خاصة جعلت اللغة والنبرات تتحول عبر صوتها الى ايقاع سحري. أداء خافت ومتطامن غير أن تصويتاته الداخلية ترن مثلما تعبر أزمنة الحلم رؤوسنا في تلك اللحظات المبهرة. وفران هزلتين كانت تصاحبها في قراءة جانب آخر فيها، مع جوان بيترز التي عزفت على آلة الهارب البابلية وقتذاك. كانت الاثنتان هذه المرة في قلب الأسطورة، منذ المقطع الأول: "هو الذي رأى كل شيء فتغني بذكره يا بلادي". فران هزلتين تدخل المشهد واصفة كلكامش البطل الى أن تقف عند مسعاه نحو الخلود، فتستلم منها جوان التي تعرف انها لا تقول أقصوصة أو حكاية كي لا تصبح تلك الأقصوصة عارضاً أمام فهم الجوهر غير العابر وغير الوقتي لمغامرة كلكامش. انهن يمضين معه في سفره الطويل حين يعود مجهداً ليجدد حلمه بسر جديد يدركه في أرض الحياة بعد ان فرغ من فكرة الخلود. فران هزلتين تساكن النص حتى يصبح مركز ذلك الانخطاف الروحي الذي يأخذها في الليل والنهار: "ابحث عن اللوح المحفوظ في صندوق الألواح النحاسي وافتح مغلاقه المصنوع من البرونز واكشف عن فتحته السرية تناول لوح حجر اللازورد وأجهر بتلاوته وستجد كم عانى كلكامش من التعب"! يسير النص لديها على حافة الحياة المدركة في مملكة الوحدة التي تسور وقتها، كما الآجر الذي تكاد تلمسه على أسوار أوروك في أحلامها الضائعة. انها لا تقرأ النص بل تمسك به لكي تستمد قوة الحلم منه. * باحثة عراقية.