خلال اقل من ستة اشهر قدمت ملحمة"كلكامش"اكثر من اربع مرات على مسارح بغداد ومالمو وروتردام وامستردام. والغريب ان العروض الثلاثة الاخيرة قدمت خلال هذا الشهر في اوروبا. لا اريد الحديث عن العرضين الاول والثاني لانني لم اشاهدهما، بل سأركز على العرض الاخير مع مرور سريع على عرض روتردام الذي قدم قبل ذلك في اكثر من عشر مدن هولندية على المسارح الملكية سخاوبرخ. في مسرح"رو"في روتردام قدم المخرج الهولندي بيتر سوننفيلد شخصية كلكامش في هيئة راو الممثل يوب كيسمات رأى وسمع كل شيء. يقف كلكامش في احدى صالات قصره في مدينة اوروك وقد تناثرت من حوله الرقم الطينية ويروي قصته في مونولوغ طويل اشبه بالبوح الداخلي واقرب الى الشكوى، ترافقه موسيقى حية مؤثرة. بني العرض على ثيمتين رئيسيتين هما الصداقة وتجربة الموت، مع تركيز على نصائح صاحبة الحانة لكلكامش بضرورة التمتع بالحياة ونسيان الماضي انت تعيش في الاشياء التي ستتركها خلفك. جرد المخرج في هذا العرض كلكامش من صفاته الخارقة ونزع عنه رداء القدرة ووضعه امام مصيره وضعفه البشري بانتظار موت محتم اعمى. بدا كلكامش كهلاً يرتدي ملابس فلاح من اوروك مع سترة حديثة للمزاوجة بين الماضي والحاضر، وللاشارة الى ان الموت واحد في كل مكان وزمان. وعلى رغم ان العرض لم يكن مبهراً بايقاعه الخافت لكنه لم يكن رتيباً... الا انه نجح في شد المشاهد للتعاطف مع شخصية كلكامش الذي ينتظر الموت مع انه رأى وسمع وعرف كل شيء، من دون ان تستطيع حكمته هذه انقاذه من الموت. اما العرض الذي قدمه مسرح كامباني للمخرج تيو بورمانس فكان مختلفاً تماماً. ولو لم يكن المشاهد يعرف مسبقاً ان العرض عن كلكامش لظن ان العمل يعرض احدى الاساطير اليونانية كأوديب او الكترا ولكن في طريقة معاصرة. كان العرض غربياً محضاً رؤية ومعالجة مع الابقاء على جوهر الحكاية الاصلية التي هي الملحمة. يبدأ العرض من لحظة دخول المشاهد الى القاعة حيث يصطدم بالمكان الذي فرشت ارضه بالعشب والصخور وهناك شخص يرتدي ملابس عصرية يجوب المسرح... انه رمز العالم السفلي. سنعرف ذلك حينما يظهر احد الرموز على شاشة كبيرة ويطلب من سيد العالم السفلي السماح لكلكامش بزيارة هذا العالم قبل ان يموت. تنفتح الارض وتظهر في السطح غرفة زجاجية استخدم المخرج مصعداً كهربائياً لتنفيذ هذا المشهد ومشاهد اخرى كثيرة في ما بعد ويبدو كلكامش مستلقياً على ظهره. حين تختفي الغرفة الزجاجية في عمق الارض يكون كلكامش رأى كل شيء وتبدأ الاحداث من جديد لتصور حياة كلكامش. انه شاب قوي ويتمتع بحماية خاصة، ولكنه نزق وعربيد ولا يقيم أي اعتبار لأي مبدأ او قيمة اخلاقية، ولا يتورع عن القيام بأرذل الاعمال من اجل اشباع غرائزه حتى حينما يشتهي امه! تجاوز المخرج منذ البداية كل تابو، فكلكامش يمارس الحب بعدوانية امام الجميع بكل حواسه التي بدت حيوانية اكثر منها انسانية. وسيظهر انكيدو بعد قليل عارياً تماماً، وبعد مشهد الصراع بين البطلين يقع كلكامش في حب غريمه ويتحول شخصاً شاذاً جنسياً. اما مجمع الرموز فقد حوله المخرج عائلة ارستقراطية تفتقر الى القداسة، تمزقها مشكلات اجتماعية لا يتورع افرادها عن ارتكاب خيانات جنسية رخيصة. حتى الحكيم اتونابشتم سيقدم نصائحه الثمينة الى كلكامش بطريقة ساخرة وتهكمية متخلياً عن مظهره الجليل وحكمته الازلية. هذا هو الجو العام للعرض مع بعض المواقف الكوميدية المرتجلة الزائدة. وحاولت جاهداً ان انظر الى العرض بطريقة محايدة، خصوصاً انني احمل ارث كلكامش في دمي، كوني ولدت في الارض التي ولد فيها كلكامش، وشربت من النهر الذي شرب منه وكنت اترقب بعض المشاهد التي كنت احفظها عن ظهر قلب. ولكن المخرج قام بحذفها لأنه يعتقد انها سترعب الجمهور ولا تتلاءم مع رؤيته في هذا العرض، مما اجهز على شعرية النص وقيمته العاطفية والحسية. وظف المخرج عدداً من التقنيات والمؤثرات الصوتية والبصرية اكسبت العرض سحراً ودهشة واثارة. واستثمر الغرفة الزجاجية في شكل خلاق وحولها في المشاهد المختلفة أشكالاً ورموزاً... فتارة هي مخدع وأخرى زقورة وثالثة مجمع ورابعة معبد عشتار. واستخدم عدداً من المراوح الكبيرة لتقديم مشهد العواصف والاهوال التي تواجه كلكامش في رحلته للبحث عن الخلود، مقدماً مشهداً حسياً وبصرياً تشكلياً مدهشاً. واستفاد ايضاً من تقنيات العرض السينمائي وامكانات السينوغرافيا في بعض المشاهد القصيرة مختزلاً الكثير من السرد وجعل ايقاع العمل الذي استمر ثلاث ساعات متواتراً ومشدوداً حتى النهاية. نجح العمل في شكل مدهش على رغم ان المخرج تخلى عن الكثير من امكانات النص ? الملحمة، كالشعرية والتراجيديا والعاطفة والسرد والاسطورة. ولو قام بحذف المشهد الاخير الذي لم تكن له ضرورة على الاطلاق لكان اتاح للمشاهد فرصة ومساحة للتساؤل او التأمل.. ولكنها البراغماتية الغربية التي لا تتيح ادنى مجال للوهم او الحلم او حتى التأمل في المصائر. قدمت العرض نخبة من الفنانين الهولنديين اضافة الى الفنان البلجيكي المعروف ستيفان داخاند الذي مثل شخصية انكيدو ومثل شخصية كلكامش الفنان الموهوب فدايا فان هوت. وسبق ان قدم المخرج هذا العمل في فيينا في العام 2002.