"... انتظم كتابنا هذا ثلاثة اقسام احدها ما عايناه والثاني ما سمعناه من الثقات، والثالث ما وجدنا في الكتب ... وما بقيت خزانة ملك إلا وقد لزمتها. ولا تصانيف فرقة إلا وقد تصفحتها. ولا مذاهب قوم إلا وقد عرفتها. ولا أهل زهو إلا وقد خالطتهم ... ولقد سميت بستة وثلاثين اسماً. دعيت وخوطبت بها مثل مقدسي وفلسطيني ومصري ومغربي وخراساني ... وصوفي ... وزاهد وسياح ووراق ... لاختلاف البلدان التي حللتها وكثرة المواضع التي دخلتها. ثم انه لم يبق شيء مما يلحق المسافرين إلا قد اخذت نصيباً غير الكدية وركوب الكبيرة. فقد تفقهت وتأدبت ... وخطبت على المنابر وأذّنت في المنائر وأممت في المساجد وذكرت في الجوامع واختلفت الى المدارس ... وتكلمت في المجالس. وأكلت مع الصوفية الهرائس، ومع الحانقائيين الترائد، ومع النواتي العصائد. وطردت في الليالي من المساجد. وسحت في البراري. وتهت في الصحاري. وصدقت في الورع زماناً. وأكلت الحرام عياناً. وصحبت عباد جبل لبنان. وخالطت حيناً السلطان وملكت العبيد وحملت على رأسي بالزبيل. وشارفت مراراً الى الغرق وقطع على قوافلنا الطرق. وخدمت القضاة والكبراء وخاطبت السلاطين والوزراء. وصاحبت في الطريق الفساق وبعت البضائع في الاسواق. وسجنت في الحبوس. وأخذت على اني جاسوس. وعاينت حرب الروم بالشواتي. وضرب النواقيس في الليالي. وجلّدت المصاحف بالكرى واشتريت الماء بالغلا. وركبت الخيول. ومشيت في السمائم والثلوج. ونزلت في عرصة الملوك الآجلة. وسكنت بين الجهال ... و كم نلت العز والرفعة. ودبر في قتلي غير مرة ... وغزوت ... وكسيت خلع الملوك ... وعريت وافتقرت مرات. وكاتبني السادات ووبخني الاشراف وعرضت عليّ الاوقاف وخضعت للأخلاق ورميت بالبدع ... فكم بين من قاسى هذه الأسباب وبين من صنف كتابه في الرفاهية ووضعه على السماع". "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، المقدسي المتوفى سنة 992م، مطبعة بريل، ليدن، 1906