قصة هذا الشاعر العربي المُطارد، الذي كانت حياته رحلة هروب مستمر، بسبب صراحته وجرأته، تستحق أن تستقر في وجدان الوطن العربي من خليجه لمحيطه. يُعتبر الشاعر المصري ذو الأصول التونسية بيرم التونسي، أحد أشهر شعراء العامية المصرية والعربية، الذي قال عن زجله أمير الشعراء أحمد شوقي: "زجل بيرم التونسي فوق مستوى العبقرية". ولد محمود محمد مصطفى بيرم الحريري، وشهرته "بيرم التونسي" في حي الأنفوشي في مدينة الإسكندرية في 4 مارس عام 1893، من أسرة تونسية جاء عميدها الأول من تونس، وأقام في الإسكندرية. تلقى بيرم التونسي تعليمه الأول عند الشيخ جادالله، إلا أنه لم يستمر بسبب قسوة الشيخ، ثم التحق بالمعهد الديني بمسجد أبو العباس، لكنه تركه بعد وفاة والده وهو في الرابعة عشرة من عمره. في الإسكندرية التي كانت متنوعة الثقافات واللغات والجنسيات، عشق بيرم الانطلاق والاختلاط مع كل هذا التنوع والتعدد، وظهر ذلك جلياً في أشعاره وكتاباته. عمل بيرم التونسي في بداية حياته بمهنة البقالة لكسب قوته، ولكنه بدأ ينظم الشعر مبكراً، واختط لنفسه تجربة شعرية فريدة، تحولت فيما بعد لمدرسة شعرية لها طلابها وروادها. تعرض بيرم التونسي بسبب أشعاره الجريئة للملاحقة والسجن والنفي، وهو الذي كتب ذات مرة عن ذلك بإحدى زجلياته: "الأولة مصر قالو تونسي ونفوني والتانية تونس فيها الأهل جحدوني والتالتة باريس وفيها الكل نكروني". بدأت شهرته في عالم الشعر بعد قصيدة بائع الفجل، التي انتقد فيها المجلس المحلي في الإسكندرية؛ بسبب فرض الضرائب الباهظة. وقد نبغ بيرم التونسي في الكتابة بمختلف أشكالها، فقد كان شاعر الزجل العربي الذي لا مثيل له، ولكنه برع أيضاً في كتابة الأغاني والمسرحيات والمقامات والسيناريوهات والمقالات الصحافية بمختلف أنماطها. لقد كان شحنة من القدرات والمواهب، كما كان صوتاً - سوطاً مشهراً في وجه الفقر والظلم والفساد. وقد صدر له عديد من المجموعات الشعرية التي كانت تُمثّل مدرسة فريدة في نظم الزجل العربي، لدرجة أن عميد الأدب العربي طه حسين حذّر من أشعاره حينما قال: "أخشى على الفصحى من عامية بيرم". كما تغنى بقصائده كبار المغنيين كسيد درويش وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وشادية ومحمد فوزي. ومن لا يحفظ أجمل أغنياته التي أصبحت من كلاسيكيات الفن الخالد، مثل: هو صحيح الهوى غلاب، غنيلي شوي شوي، أنا في انتظارك، الورد جميل، بساط الريح، محلاها عيشة الفلاح" في عام 1960، مُنح بيرم التونسي جائزة الدولة التقديرية لإسهاماته الكبيرة في الفن والأدب والمسرح والإذاعة والصحافة، وتحصل إثرها على الجنسية المصرية، كما أطلق اسمه على أحد الشوارع العريقة في حي السيدة زينب. وفي الخامس من يناير عام 1961، وبعد معاناة مع مرض الربو، رحل "فنان الشعب"، كما كان يُلقب، وهو في ال 68 من عمره. إن حكاية هذا المُطارد الذي عانى البؤس في شوارع باريس وليون أثناء نفيه لفرنسا، إذ لم يكن يجد ما يأكله بسبب فقره وعوزه، أصبحت مثالاً لقوة الإرادة والتمسك بالحلم. إنها حكاية المشرّد التونسي، الذي أصبح "هرم الزجل" في كل العامية العربية. يقول بيرم التونسي: "الفن هو التأثير الوجداني للحياة".