نشأته ولد الشاعر الشعبي “محمود بيرم التونسي” في الإسكندرية في 3 مارس 1893م، وسمي التونسي لأن جده لأبيه الشيخ «مصطفى بيرم» كان تونسيًا قدم إلى «مصر» سنة 1833م، وأقام ب»الإسكندرية». وقد عاش طفولته في حي «الأنفوشي» بالسيالة، التحق بكُتّاب الشيخ جاد الله، ثم كره الدراسة فيه لما عاناه من قسوة الشيخ، فأرسله والده إلى المعهد الديني في مسجد المرسي أبو العباس، توفي والده الحاج «محمد بيرم» وهو في الرابعة عشرة من عمره، وأصبح هو المسؤول عن أمه ماليًا فانقطع عن المعهد واضطر أن يعمل في بقالة بعد أن ادعى أبناء عمومته أن والده قد باع دكان تجارة المنسوجات لهم قبل وفاته، وفي السابعة عشرة من عمره تزوجت أمه، ثم ماتت بعدها بوقت قصير، وبعد فترة بسيطة تزوج «بيرم» وعاش معها سبع سنوات قبل أن تفارق الحياة تاركة له أطفالًا صغارًا (محمد ونعيمة)، لذا وفي أقل من 17 يومًا تزوج بامرأة أخرى تهتم بشؤون ورعاية الطفلين. كان محمود بيرم التونسي ذكيًا ومطالعًا جيدًا وحافظًا قويًا جريئًا حرًا، بدأت شهرته عندما كتب قصيدته «بائع الفجل» التي انتقد فيها «المجلس البلدي» بالإسكندرية بسبب إرهاق السكان بالضرائب الباهظة، «المجلس البلدي» الذي كان دولة داخل دولة يسيطر عليه الأجانب وهو مازاد الأمر تعقيدًا، وبعد هذه القصيدة فُتحت أمامه أبواب الفن والشهرة بالرغم من أنها لم تكن أول أعماله ولا أجرؤها، فقد سبق ذلك محاولات نشرها في عام 1916م. قصيدة بائع الفجل في المجلس البلدي: قد أوقعَ القلبَ في الأشجانِ والكَمَدِ هوى حبيبٍ يُسَمّى المجلس البلدي أمشي وأكتمُ أنفاسي مخافة َ أنْ يعدّها عاملٌ للمجلسِ البلدي ما شَرَّدَ النومَ عن جفني القريحِ سوى طيف الخيالِ خيال المجلسِ البلدي إذا الرغيفُ أتى، فالنصف ُ آكُلُهُ والنصفُ أتركُه للمجلس البلدي وإنْ جلستُ فجَيْبِي لستُ أتركُهُ خوفَ اللصوصِ وخوفَ المجلسِ البلدي وما كسوتُ عيالي في الشتاءِ ولا في الصيفِ إلاَّ كسوتُ المجلسَ البلدي كَأنَّ أٌمّي بَلَّ اللهُ تُربتها أوصَتْ فقالت: أخوك المجلس البلدي أخشى الزواجَ إذا يوم الزفافِ أتى يبقى عروسي صديق المجلسُ البلدي ورُبَّمَا وَهَبَ الرحمنُ لي ولدًا في بَطْنِها يَدَّعيه المجلس البلدي يا بائعَ الفجلِ بالمِلِّيمِ واحدةً كم للعيالِ وكم للمجلسِ البلدي أعماله بعدها توجه بيرم إلى نوع آخر، وهو القصائد الزجلية أي أنه اختار الكتابة بلغة شعبية، وذلك بهدف أن تصل قصائده إلى كل فئات الشعب، وفي تلك الفترة تعرف بيرم على «سيد درويش» ويكتب له أول قصيدة وطنية، وقد رثاه بقصيدة جميلة عند وفاته. سيد درويش من غيابك يوم وداعي كنت بكتب لك عتاب ونت لي مخلص وداعي انتظر منك جواب شفت اسمك في المناعي واللقا يوم الميعاد ******* لما حظي كان وجودك غيبت حظي القبور واتمحى ميعاد صعودك والتجلي والسرور ونت ياسيد وعودك المصور في الفؤاد ******* أنا أبكي لجل سنك واندب العمر الطويل واسهر الليل لجل فنك في المعازي والعويل واسأل القيثاره عنك ياللي أنطقت الجماد ******* أصدر مجلة «المسلة» في عام 1919م وهي ليست جريدة ولا مجلة أي ليس لها صفة دورية وبعد إغلاقها بسبب مساندتها للثورة التي نفي فيها سعد زغلول ورفاقه ونقده الجريء للاحتلال والحكومة والحكام أصدر مجلة «الخازوق» وواصل هجومه على الأسرة الحاكمة ولم يكن حظها بأحسن من حظ «المسلة»، وقد يتخيل البعض أن الحكومة ديموقراطية لا يضيرها النقد البناء إلا أن الحقيقة أنه لم يكن يحميه من بطشها إلا الحماية الفرنسية لأسرته كونها تونسية الأصل. نفي إلى تونس التي يحمل جنسيتها بعد أن استطاعت الحكومة من استصدار أمرًا بالإبعاد من القنصلية الفرنسية، ولكنه لم يطق العيش فيها، في تلك الأثناء أصبح السلطان فؤاد ملكًا فأرسل إليه من منفاه تهنئة يقول فيها: مجرم ودون ولما عدمنا بمصر الملوك جابوك الانجليز يا فؤاد قعدوك تمثل على العرش دور الملوك وفين يلقوا مجرم نظيرك ودون وخلوك تخالط بنات البلاد على شرط تقطع رقاب العباد وتنسى زمان وقفتك يا فؤاد على البنك تشحت شوية زتون فسافر إلى فرنسا ليعمل حمّالًا في ميناء (مرسيليا) لمدة سنتين، تسلل إلى مصر وحاول أن يعيش متخفيًا بعد أن اشتد به الحنين إليها وإلى وأهله وولده، فيعود إلى أزجاله النارية التي ينتقد فيها السلطة والاستعمار آنذاك ياللا ياجنود مصر الحرة ارموا لنا الاستعمار بره أراضينا جنوبها وشمالها ما يدافع عنها إلا رجالها واللي ما تترك شط قنالها برضاها تخرج مضطرة ولكن يلقى عليه القبض مرة أخرى لتنفيه السلطات إلى فرنسا ويعمل هناك، تارة حمالًا وتارة عاملًا في مصنع، فيعيش حياة ضنكًا ويواجه أيامًا قاسية ملؤها الجوع والتشرد، قضيت حياتي غريب في أرض فرنسا ياويحه من يدخل فرنسا غريب لقيت كلام القوم شهد مكرر لكن عيونهم تشتعل لهاليب ورغم قسوة ظروف الحياة على بيرم إلا أنه استمر في كتابة أزجاله وهو بعيد عن أرض وطنه، فقد كان يشعر بحال شعبه ومعاناته وفقره المدقع. في عام 1932م كانت فرنسا تمر بأزمة مالية فقامت سلطاتها بطرد الأجانب ويتم ترحيل الشاعر من فرنسا إلى تونس وهناك أصدر مجلة سماها “الشباب” ولكن السلطات الفرنسية أغلقت مجلته وأخرجته من تونس حتى ينتهي به المطاف إلى الشام، وفي دمشق يقبض عليه المعتمد الفرنسي ويأمر بنفيه وهو ابن الخامسة والأربعين وفي طريق العودة تقف به الباخرة في «بورسعيد» لتتزود بالمؤونة والوقود، فيتسلل مرة أخرى إلى وطنه بمساعدة أحد تجارها وكان ذلك في عام 1938م بعد أن قضى عشرون عامًا في المنفى وهكذا عاد بيرم إلى مصر أديبًا فقيرًا مستخفيًا تطارده عيون الحكومة حتى استرضى «السراي» ببعض أشعاره وتغاضوا عن وجوده حتى ثورة 23 يوليو 1952م، مُنح الجنسية المصرية، فعمل كاتبًا في أخبار اليوم وبعدها عمل في جريدة المصري ثم في جريدة الجمهورية، وقد قدّم بيرم أعمالًا أدبية مشهورة، وكان أغلبها أعمالًا إذاعية منها (سيرة الظاهر بيبرس) و(عزيزة ويونس) وفي سنة 1960م منحه الرئيس «جمال عبدالناصر» جائزة الدولة التقديرية لمجهوداته في عالم الأدب. مدارسنا....ومدارسهم في أرضنا للأجانب، ألف إسكوله يخرجوا بالألوف، من غول على غولة عارضين لجلب المكاسب ستميت حيلة ويجمعوا من جيوبنا المال بالكيلة وحنا وزارة معارفنا أم هليلة أم الحيطان والببان والحطة والشيلة تأخذ ولادنا، وبفلوسنا، وبالتيلة يناموا فيها، ومنها، يطلعوا نيلة أشطر ما فيهم مايكسبشي عشا ليلة واجدع ما فيهم يقول ياست ! ياوسيلة شوفي لنا حتة وظيفة تستر الميلة غنّت له أم كلثوم عدة قصائد مما ساعد على انتشاره في جميع الأقطار العربية، وظل إلى آخر لحظة في حياته من حملة الأقلام الحرة الجريئة. وفاته توفي بيرم التونسي في 5 يناير 1961م عن عمر يناهز 68 عامًا وذلك بعد معاناة طويلة مع مرض الربو. ترك بيرم منتجه الشعري، الذي أحيا القصيدة العامية بعد أن كانت قد اندثرت عبر عصورها الطويلة، ليستمر عبر تلامذته «حداد» و»جاهين» و»الأبنودي» و»نجم» وعبر مقطوعته الفلسفية التي رأى فيها بيرم الحياة سمرًا أدبيًا عابرًا ليس إلا: قال: إيه مراد ابن آدم؟ قلت له: طقه قال: إيه يكفي منامه؟ قلت له: شقة قال: إيه يعجل بموته؟ قلت له: زقة قال: حد فيها مخلد؟ قلت له: لأة قال لي: ما دام ابن آدم بالصفات دي نويت أحفظ صفات ابن آدم كل ما أترقى.