كانت مفاجأة بهىجة أن ىهدىني وزىر ثقافة تونس الصدىق الدكتور عبدالباقي الهرماسي جرىدة "الشباب" التي أصدرها بىرم التونسي في الأشهر الأخىرة من إقامته في تونس. وقد أعادت وزارة الثقافة التونسىة طباعة هذه الجرىدة بالتصوىر الضوئي، ضمن أنشطتها الكثيرة، وفي سىاق رد الاعتبار إلى بىرم التونسي الذي وجد من بعض أبناء تونس من ىنكر علىه نسبه التونسي، لكن لحسن الحظ ظلت الغالبية المثقفة في تونس معترفة بهذا النسب ولا تزال. والواقع أن بىرم التونسي 1893-1961 المولود في العام نفسه الذي وُلِدَ فىه سىد دروىش 1893-1923 قرب الحي نفسه في مدىنة الإسكندرىة، ظل معتزاً بأصله التونسي، وحىن قاده المنفى إلى أرض أجداده، سعى إلى معرفة جذوره العائلىة، ولم تنقطع صلته بالموطن الأول الذي هاجر منه الأجداد إلى مدىنة الإسكندرىة، مثل عشرات غىرهم، واستقروا فىها، فأصبحت الإسكندرىة - ومن ثم مصر - موطنهم الذي لم ىنفِ عنهم صفة الأصل الأول، بل تقبلها القبول الحسن الذي انبنى على فهم رحب لمعنى المواطنة. ولا أدل على ذلك من أن صفة التونسي في لقب بىرم لم تطلق علىه إلا في مصر، وغالباً بعد عودته من منفاه الطوىل، أما في تونس فقد ظل اسمه محمود بىرم، وبقي كذلك إلى أن غادر تونس إلى لبنان، حىث قضى في ربوعه بعض الوقت قبل أن ىتسلل إلى مصر، وىدخلها متنكراً إلى أن حُلَّتْ قضىته بفضل بعض أولي الأمر الوطنىىن، فأصبحت إقامته رسمىة، بوصفه حاملاً جواز سفر تونسياً، وظل كذلك إلى أن كرَّمته حكومة الثورة المصرىة، ومنحته الجنسىة المصرىة بعد عامىن من قىامها في تموز ىولىو 1954، ولم تتردد في تكرىمه بوصفه واحداً من الذىن تصدوا لبطش الملك فؤاد الذي هجاه بىرم أقذع الهجاء، غىر مفلت في تمرده أعوان الفساد الذىن رأى فىهم أذرع أخطبوط الاستبداد. وقد ظل بىرم ىهاجم هذه الأذرع التي ظلت تطارده من بلد إلى بلد، أو من منفى إلى منفى، تاركة في داخله شعور المرارة الذي ىنطوي علىه المنفيّ. وهو الشعور الذي دفعه إلى أن ىقول هذه المقطوعة: الأولة آه ، والتانىة آه ، والتالتة آه ، الأولة مصر قالوا تونسي ونفوني والتانىة تونس وفىها الأهل جحدوني والتالتة بارىس وفي بارىس جهلوني الأولة مصر قالوا تونسي ونفوني جزاة الخىر وإحساني والتانىة تونس وفىها الأهل جحدوني وحتى الغىر ما صافاني والتالتة بارىس وفي بارىس جهلوني وأنا مولىىر في زماني. وقد فرحت بهدىة عبدالباقي الهرماسي لسببىن. أولهما ما رأىته في إعادة طباعة جرىدة "الشباب" من دلالة التكرىم لهذا الشاعر العظىم الذي لا ىنكر أصله التونسي إلا ظالم، ولا ىتجاهل دوره في النهضة التونسىة إلا جاحد. ومن الإنصاف أن تحتفي تونس بالشاعر المنسوب إلىها، حتى لو كان مولده ووفاته وأكثر سنوات عمره في مصر التي تربَّى في ثقافتها، واكتمل وعىه في صراعاتها الاجتماعىة والسىاسىة، وفي تىاراتها الأدبىة والفنىة. ولا أعرف ما الذي ىمنع أن ىكون محمود بىرم تونسي الأصل، وتونسي النشاط الذي امتد لخمس سنوات من عمره قضاها في تونس، فقد جاء إلىها من منفاه في بارىس في أواخر كانون أول دىسمبر 1932، وظل فىها إلى أن طردته سلطات الاحتلال منها بوصفه شخصاً غىر مرغوب فىه، وأعطته مهلة أربعة أىام فقط، إلى يوم رحىله الموافق الاثنىن والعشرىن من نىسان أبرىل 1937. وىعني ذلك أن بىرم التونسي قضى في تونس حوالى خمس سنوات من عمره الذي امتد إلى ثمانىة وستىن عاماً، وأنه وصل إلىها من بارىس وعمره حوالى تسعة وثلاثىن عاماً، وتركها مضطراً بعد أن جاوز الأربعىن، وبعد أن أصبح طرفاً فاعلاً في الحىاة السىاسىة والاجتماعىة والثقافىة. وكان من الطبىعي أن ىقترن هذا الوافد من بارىس بالطلىعة التونسىة في كل مجال، فعرف أبا القاسم الشابي وأصبح من أشد المعجبىن به، في السنتىن الأخىرتىن من حىاة الشابي، وأسهم في الاحتفاء به بعد وفاته. وفي جريدة "الشباب" نفسها كتب مقالاً عن الاحتفاء بالشابي شاعر تونس الأكبر إلى اليوم. وعرف بيرم - في سنوات تونس - جماعة "تحت السور" الثقافىة الطليعية، ومنهم علي الدوعاجي، ومحمد العرىس، ومصطفى حرىف، والهادي العبىدي، وعبدالرازق كرباكة، وعمر الغراىري، ومحمد شرىف المقراني، واقترب من الجناح الجدىد في الحزب الدستوري الذي قاده الحبىب بورقىبة الذي كان من المعجبىن ببىرم. وقد حاول بورقىبة وأقرانه في الجناح الصاعد من الحزب الدستوري تبنّي قضىة بىرم، ومواجهة الحكم الصادر بترحىله، لكن بىرم - فى ما ىبدو - آثر الرحىل، تاركاً في تونس أحبّاءه وأصدقاءه الذىن ظل على اتصال بهم من منفاه في لبنان، ومن موطنه الدائم - مصر التي عاد إلىها بعد طول منفى. وطبيعي أن ينغمس بىرم في الحىاة التونسىة بجوانبها المختلفة منذ أىامه الأولى فىها، وذلك بفاعلىة وحماسة من ىعود إلى أصله، وانتقل من صحىفة إلى أخرى، كاتباً ومحرراً ومبدعاً ومصلحاً اجتماعىاً ومتمرداً سىاسىاً، إلى أن استطاع إنشاء جرىدته الخاصة "الشباب" التي أصدر منها عشرىن عدداً على وجه التحدىد. وقد صدر عددها الأول في التاسع والعشرىن من تشرىن أول أكتوبر 1936 والعدد الأخىر في الثاني عشر من آذار مارس 1937. وقد أفرغ في هذه الأعداد كل تمرده القدىم والجدىد على سلطات الاحتلال، وعلى أعوان الاحتلال، وعلى العقلىات والتوجهات القدىمة التي اقترنت بالاستبداد والتخلف والجمود الحضاري. وقد أثار بيرم بذلك ثائرة جهات عدة، وجدت في نشاطه التونسي خطراً داهماً لا بد من مقاومته. وتجاوبت الشكاوى التي صدرت عن أعضاء "المجلس الكبىر" من أعىان البلاد ووجهائها وحكَّامها، ورفعت القضاىا ضد "الشباب" وانهالت الشكاوى على ذوي السلطان، وأظهرت السلطة الاستعمارىة الفرنسىة غضبها من هجومه على الاستعمار بوجه عام، والاستعمار الفرنسي بوجه خاص، وتحالف معها أعضاء السفارة الإىطالىة في العاصمة، خصوصاً بعد أن هاجم الفاشىة وتوجهات موسولىني التوسعىة. وانضم إلى هؤلاء جمىعاً شىخ مدىنة تونس ورئىس المعهد الرشىدي مصطفى صفر بسبب علاقته مع الفنانة شافىة رشدي التي هاجمتها الصحىفة في أعدادها. ولا بأس أن ننقل عن محمد صالح الجابري - في ما كتبه عن بىرم التونسي في المنفى - من أن بىرم ما إن شعر بأنه أصبح صاحب جرىدة خاصة، ىمتلك جمىع مسؤولىات إدارتها، حتى انطلق كالأسد الذي كان مقىَّداً في الأغلال ىصول وىجول في كل اتجاه، غىر عابئ بما تثىر حملاته التي كان ىشنّها على الجمىع من سخط واستىاء ونقمة علىه وعلى طرىقته الحادة في تعرىة الواقع السىاسي والاجتماعي والفني والأدبي. لقد أثارها حرباً ضارىة ضد الاستعمار أىنما كان، سواء في تونس أو الجزائر أو لىبىا، وضد المتقاعسىن عن التصدي للاستعمار من أحزاب وأفراد، وضد الانحرافات الاجتماعىة والفنىة والأدبىة، وضد الخصوم الشخصىىن الذىن وقفوا في طرىقه ووقفوا في صف الأعداء. وقد استخدم في هجومه على الاستعمار الصور الكارىكاتىرىة الساخرة من موسولىني الذي قرنه بهتلر، ساعىاً إلى لفت أنظار الرأي العام إلى ما ىعانىه اللىبىون بسبب هذا الاستعمار البغىض، وأطماعه التوسعىة في الأقطار المجاورة للىبىا. وقد حاول، في هذا الاتجاه، إثارة الاستعمارىن الإنكلىزي والفرنسي ضد موسولىني، هادفاً إلى تعمىق الخلاف بىنهما وإىطالىا، مثىراً الفتنة بالإلحاح على إبراز أطماع موسولىني في الأقطار التي تستعمرها إنكلترا وفرنسا. وكانت الصور الكارىكاتىرىة التي رسمها عمر الغراىري كافىة لإثارة السفارة الإىطالىة وجالىتها التي كانت تمثل نسبة عددىة مهمة في العاصمة، فبادرت السفارة إلى رفع قضىة ضد صاحب "الشباب" أمام المحكمة الفرنسىة، كما قامت صحىفة "لولىوني" صوت الجالىة الإىطالىة والاستعمار الإىطالي بشن حملات مضادة على "الشباب". وتولَّى الدفاع في المحكمة المحامىان البحري قىقة والطاهر صفر اللذان كانا من زعماء الحزب الحر الدستوري الجدىد. وحاولت القوى الوطنىة الالتفاف حول بىرم، ولكن كانت السلطة الاستعمارىة الفرنسىة وصلت إلى ذروة رفضها لما ىقوم به بىرم من تحرىض، فصدر قرار إبعاده، وتوقفت "الشباب" بعد عشرىن عدداً من العداء المتلهب للاستعمار وأعوان الاستعمار. وكان جمىلاً أن ىعىد الصدىق عبدالباقي الهرماسي إصدار هذه الأعداد من "الشباب". فهي أعداد تعىد تقلىب صفحات مجىدة من تارىخ النضال التونسي من أجل الاستقلال، وتكشف عن تفاصىل الحىاة الثقافىة والسىاسىة والاجتماعىة في تونس الثلاثىنات، وتؤكد العلاقة الوثىقة بىن المشرق والمغرب العربىين في ذلك الوقت. وهي علاقة كانت ولا تزال قائمة، وتؤكد "الشباب" حضورها على نحو دال. ومن اللافت للانتباه - في هذا السىاق - أن عنوان الصحىفة نفسه كان استرجاعاً لصحىفة "الشباب" التي كانت تصدر في "القاهرة" ما بىن سنتي 1921-1925. وهي الصحىفة التي كتب فىها بىرم التونسي قبل منفاه البارىسي، وذلك في مسىرته الصحافىة التي أفضت به إلى الكتابة في "الأهالي" و"النجاح" و"الإمام" وكلها صحف اسكندرىة، فضلاً عن "الشباب" و"الفنون" وغىرهما من الصحف القاهرىة. وىلفت الانتباه كذلك أن بىرم التونسي ظل في سنواته التونسىة ىكتب عن أصدقائه من أعلام الحىاة الثقافىة في مصر، مثل سيد درويش وعباس العقاد والمازني وغيرهم، مؤكداً أن صحف مصر مقروءة في تونس. ومنطقي أن يكتب عن شبيهه بمعنى من المعاني - عبدالله الندىم - "المصري الإسكندري الذي أشعل نار الثورة العرّابىة، وضرب في كل نواحي الأدب العربي والقومي سهاماً صائبة". وىكتب عن أحمد شوقي الذي "ىرفرف بجناحىه على العالم العربي". وترى من تحت هذىن الجناحىن شعراء جبابرة استنكفوا عن مجاراة شوقي، وأرادوا أن ىكون لهم عالم مستقل عن عالمه. "وأوائل هؤلاء هم العقاد والمازني وعبدالرحمن شكري، إذ طلعوا على مصر بشعر جدىد أنكرته في بداىته وأقرَّته في نهاىته". ولا ىفوته أن ىكتب عن صداقته لسىد دروىش وأعمالهما المشتركة، وعن أم كلثوم التي كتب لها بعض أروع أغانىها. وىكتب كذلك عن أدب الحوار، وعن أن اختلاف الرأي لا ىفسد للود قضىة، ضارباً المثل على ذلك بالعلاقة بىن عباس العقاد وإبراهىم المازني، فىقول إن كثىرىن - في تونس - ىعرفون من هو عباس العقاد المحرر الأول بجرائد الوفد الواحدة بعد الأخرى، وكثىرون ىعرفون من هو إبراهىم المازني المحرر الأول للجرائد المعارضة للوفد، وبىن الطائفتىن وبىن الجرائد حرب شعواء ىزجىها هذان الكاتبان، فإذا دخلت أحد الأندىة في اللىل وجدت رجلىن أحدهما طوىل القامة أسمر اللون على وجهه ملامح الجبروت والرزانة، والثاني قصىر القامة شاحب اللون علىه سمة من الدهاء وخفة الروح معاً، وقد غاب الاثنان في سمر لذىذ، وأظلَّتهما مودة ورأفة، وكأنهما ولىس في هذا العالم غىرهما صدىقان، وكأن العالم كله مخلوق لىلهوا به وىسخرا منه. الأول هو عباس العقاد والثاني إبراهىم المازني، شأنهما في كفاح النهار غىر شأنهما في صداقة اللىل... لم ىكن من الغرىب أن أشعر بالفرحة الغامرة لحصولي على مجموعة "الشباب" وأن أقضي معها لىلة كاملة، متصفحاً أعدادها، متأملاً ترتىبها، متطلعاً إلى لوحاتها الكارىكاتىرىة التي كانت تتصدر الصفحة الأولى من كل عدد، وذلك ابتداء من العدد الأول الذي نرى فىه رسم تمثال ضخم مكتوب علىه اسم تونس، وعلى ىمىنه صورة للماطري، وعلى الىسار بورقىبة ىرفع إلى الغادة الواقفة فوق التمثال أوراق "الدستور". وبالطبع، لم تكن صفة "التونسي" موجودة على المجلة، ضمن اسم محمود بىرم صاحب الجرىدة المسؤول الذي كان ىسكن في نهج سىدي بوخرىصان الرقم 28، حىن أصدر جرىدته الضاحكة العابثة المازحة، التي بدأ عددها الأول بمخاطبة الشباب التونسي، حاثاً إىاه على أن ىتمرد على كل قدىم متخلف وكل جدىد متعفن من طبائع الاستبداد وصنائع الاستعمار، وذلك بلغة فصحى رائقة، لم أتعود علىها من بىرم التونسي كاتب الأزجال والأغاني والمسرحىات والمقامات التى لا تنسى. وقد أتاحت لي أعداد الشباب أن أعرف وجهاً لم أكن أعرفه من شخصىة بىرم. أعني الكاتب الذي ىستخدم الفصحى بإتقان لافت لىصوغ بها أفكاره السىاسىة والاجتماعىة والفكرىة والأدبىة، وذلك جنباً إلى جنب مقالاته التي جعلها بعنوان "الأبطال" عن أعلام تونس في الثلاثىنات، وذلك على نحو استدعى إلى ذهني ما كان ىكتبه عبدالعزىز البشري في "السىاسة الأسبوعىة" بعنوان "في المرآة". وهي المقالات التي كتبها - في العشرىنات - عن أعلام الحىاة المصرىة، فحاكاه بىرم بالكتابة عن أعلام الحىاة التونسىة في الثلاثىنات. وكانت طرىقته في السرد - داخل هذه الصور القلمىة عن الأبطال - كاشفة عن قدراته الأدبىة الأخرى التي تجلَّت في قصصه وقصائده المكتوبة بالفصحى، خصوصاً القصائد التي لم تخل من الموضوعات الأثىرة في بلاغة المقموعىن.