بكل أسف أصبحت المبالغة بالديات للتنازل عن حق القصاص أقرب إلى الظاهرة، ولاشك أن فجيعة الفقد مؤلمة ومؤذية للنفس البشرية، لاسيما إن كان الفقد حدث بفعل القتل. فمن حق أهل القتيل أن يقبلوا بالتنازل لوجه الله، طمعاً فيما عند الله من أجر، ومن حقهم أيضاً الحصول على دية للتنازل كتعويض عن حق القصاص. في الجانب المقابل يطمح ذوو القاتل، بدرء تنفيذ القصاص عن ابنهم ، وهذا من حقهم أيضاً ، فيسعون بالبذل المعنوي والمادي لأولياء الدم، وطرق أبواب الوجهاء للتوسط عند الأولياء لحثهم على التنازل. وكذلك من حق الوجهاء، السعي في طرق أبواب الصلح، فهذا دور اجتماعي لابأس به، ونوع من أنواع التكافل الاجتماعي المرغوب. لكن المؤسف تحوله من العمل الاجتماعي الراقي، إلى وسيلة من وسائل التكسب الاجتماعي والمادي، حين دخل "سماسرة الدماء" في هذا المجال طمعاً بالحظوة الاجتماعية، وأملاً في الأعطيات التي تنهال عليهم من ذوي القاتل. تابعت قبل سنوات أحدهم وهو يتوسل رجل أعمال معروف في قناة فضائية بطريقة فجة، لم ترق حتى لرجل الأعمال الشهير، والذي اضطر إلى إسكاته أمام الملأ بمبلغ للتنازل. الجميل أن رجل الأعمال وهو من أصحاب الأيادي البيضاء في عمل الخير، استنكر مايحدث من مبالغات في دية التنازل عن حق القصاص. إن هؤلاء السماسرة هم الشريان الرئيس الذي أدى إلى تضخم مبالغ الديات بهذا الشكل الفلكي، ولعل لهم مقاصد وغايات، فكلما تضخمت القضية، وازدادت الفعاليات المصاحبة، ارتفع سقف شهرتهم، وسطعت نجوميتهم، مما سيترتب عليها مكاسب شخصية كثيرة. وأرجو أن يفهم من هذا أنني أعني "سماسرة الدماء" فقط ولا أعني لجان الإصلاح ولا أولئك الكرماء من المشايخ أو الوجهاء الذين يندبون أنفسهم للخير. أهيب هنا إلى ضرورة المبادرة بإعادة النظر في هذه الممارسات، التي أفرزت لنا ظاهرة المبالغة بالديات التي وصلت لملايين الريالات، غير الطلبات الأخرى التي تتجاوز حدود المنطق، ولإعادة ضبط الأمور فأقترح الآتي: 1- أن يكون دور السعي بالتنازل محصوراً في لجان إصلاح ذات البين الرسمية. 2- اختيار الأكفاء لعضوية اللجان، والرقابة الصارمة على أدائهم. 3- منع إقامة محافل تكريم السعاة في التنازل. 4- أن تمنع القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي من تغطية التجمعات والمحافل لغرض جمع الديات. 5- أن تضبط تلك التجمعات والمحافل المعدة لهذا الغرض بشروط ضابطة. إن تحجيم الظاهرة بات أمراً ملحاً للغاية، إذ لايمكن أن تتضاعف المبالغ بهذا الشكل، على مرأى ومسمع الجميع. فإما أن يكون التنازل لوجه الله، أو يكون تنازلاً بدية مقننة نظاماً. Your browser does not support the video tag.