ظاهرة غريبة لم تكن مألوفة من قبل، أساءت لديننا ومجتمعنا والسبب في ذلك أناس دخل الطمع قلوبهم، وسيطر حب المال على عقولهم حتى روجوا لما يسمى ب«تجارة الدم»، وذلك بطلب عشرات الملايين مقابل التنازل عن القاتل، ما يعد تعجيزاً مخالفًا للعقل والمنطق، وهذه الأمور لا يقرها الدين الإسلامي، ولم تكن معروفة في العرف القبلي منذ عقود خلت، ولكن هؤلاء المتاجرين بالدم لم يقفوا عند ما حددته لهم الشريعة، بل تجاوزوا كل الخطوط متجهين نحو كارثة اجتماعية. بداية يرى المواطن فرحان الزهراني أن العفو عن القصاص من شيم الكرام، ومن عفا لوجه الله له أجر عظيم في نشر الوعي بين أفراد المجتمع، ويضيف: العفو عن القصاص من أنبل وأفصل القربات إلى الله؛ لأنه إعطاء الفرصة لنفس في مراجعة حساباتها وتجديد التوبة، ولكن الحاصل الآن لهو شيء يندى له الجبين عندما نسمع بمن يثقل أهل الجاني مبالغ كبيرة، ووصلت المطالبات على أرقام فلكية، حتى تحولت إلى صفقات تجارية، ومن هنا يجب وقف مدها حتى لا تتفشى في المجتمع، وأضاف الزهراني: استبشرنا خيرًا بصدور الأمر السامي بهذا الشأن، ولكن لم نرَ أحدًا التزم بهذا الأمر الذي حدد الديات ب300 ألف لقتل الخطأ و400 ألف لقتل العمد، فالواجب أن تكون هناك جهة رقابية تشرف على تطبيق الأحكام الشرعية والحد من تجاوز ما أنزل الله به بشأن تلك القضايا. وزاد الزهراني قائلًا: المبالغة في طلب الديات تؤدي إلى إذلال وإرهاق ذوي الجاني، وهو أمر مناف للشريعة الإسلامية التي كفلت كرامة الإنسان، وعلى أولياء الدم أن يطلبوا الدية المتعارف عليها، وإن كان العفو لوجه الله وطلب الآخرة هو العمل العظيم عنده أفضل وأسلم. وفي الغالب أن طلب أهل الدم لملايين الريالات ليس من أجل الحاجة، وإنما لأجل التعجيز ورد الوسطاء من الشفاعة للقاتل، هكذا فسر فلاح المسردي سبب انتشار هذه الظاهرة حيث قال: البعض من أهل الدم يلجأون لطلب الملايين والشروط التعجيزية لغرض عدم الضغط عليهم للتنازل والقبول بالدية الشرعية، ولاشك أن هذا المسلك خاطئ، لذلك لا بد لولي الأمر من التدخل للحد من المغالاة في الديات، خصوصًا أن القاعدة الشرعية تنص على أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والناظر فيما يجري الآن يجد أن هناك مفاسد عظيمة تسببت بها تلك الديات المليونية. ويتساءل أيضًا: أين المروءة والشهامة التي يتفاخر بها هؤلاء وهم يبيعون جثث أبنائهم بمقابلٍ مادي؟ بل أين القوانين والجهات الرسمية عنهم؟ فالناظر فيما يدور على الساحة من تزايد ملحوظ في أعداد المبالغين في الديات يقر بأن هناك خللًا كبيرًا في فهم الكثير لمفاهيم القرآن الكريم والسنة المطهرة، وتجاهل مبدأ الرحمة والعفو. ويرى فلاح أن المبالغة في طلب الدية حولت الصورة المشروعة التي يراد منها تخفيف مصاب أولياء المجني عليه، وتعويضهم عن فقد عائلهم، وشفاء ما في نفوسهم إلى متاجرة وإذلال ومزايدة ومعاندة، وقال: المطالب التعجيزية أذكت نار الفتنة، وولدت الكراهية، وأضرت بالجاني وأوليائه، وألحقت النقص ليس على مستوى الفرد، وإنما على القبيلة أو الجماعة حتى في قوتهم وأرزاقهم. وذكر سعد أبو قفرة القحطاني عضو لجنة إصلاح ذات البين أن المسؤول الأول عن المبالغة في رفع الديات إلى الملايين هم أولياء المقتول، فهم أصحاب الشأن في تحديد مبلغ الدية، وولاة الأمر في المملكة على رأسهم خادم الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والأمير تركي بن عبدالله نائب أمير منطقة الرياض والأمير تركي بن طلال لا يألون جهدًا في النصح وتوعية المجتمع والمبادرة في المشاركة بعتق الرقاب، مع العلم أن هناك عددًا كبيرًا في المجتمع من ذوي القتلى على درجة كبيرة من الوعي ترفض أخذ الدية وتعفو عن القاتل احتسابًا لما عند الله. وأضاف أبو قفرة: الابن غالٍ، وذوو الجناة يستسلمون غالبًا لمطالب أصحاب الدم فداءً لإنقاذ أرواح أبنائهم، وهذا أمر طبيعي، ومجتمعنا مجتمع متكافل يساعد بعضه البعض. وأكد أبو قفرة أنه للأسف يوجد سماسرة هم سبب من أسباب رفع مبلغ الدية، وهذا الشيء مؤسف حقًا أن نجده في مجتمعنا، ولكن ولله الحمد توجد لجنة رسمية لإصلاح ذات البين تعمل لوجه الله سبحانه في تقارب وجهات النظر بين ذوي القاتل والمقتول وتهدف إلى نشر الوعي في المجتمع من خلال القنوات الرسمية وتحت ظل ولاة الأمر مستشعرين قوله تعالى: «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا»، وعن وجود جهة رسمية لجمع تبرعات الديات قال: لا يوجد حتى الآن جهة رسمية لجمع الديات، ونحن نطالب بإيجاد قناة رسمية لجمع المساعدات وحفظ الفائض منها لمساعدة أشخاص آخرين. وفي السياق نفسه ذكر الدكتور نايف الظفيري المحامي والمستشار بديوان المظالم سابقًا أنه من أشد المفارقات التي تمر علينا يوميًا ونطالعها في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية وتعد ظاهرة سيئة هي المبالغة في مبلغ العفو عن الدية من قبل ولي الدم أو ورثته، وهذه الظاهرة تشكل عبئًا على أولياء أمور المحكومين وقبيلته وجماعته، وديننا أمر بالعفو ونهى عن أن تكلف النفس فوق طاقتها. وشدد الظفيري على أن هذه المبالغة تسبب إعاقة لعمل جميع جهات الإصلاح عن عملها. كما ذكر الظفيري أن هذا الأمر اخرج الدية عن مقصدها وغايتها التي شرعت من أجلها، وذكر أن العفو عن القاتل مقصد مطلوب وأجر ولي الدم عظيم لو كان لوجه الله «فمن عفا وأصلح فأجره على الله"، وذكر الظفيري أن العفو من شيم الرجال، ولا يحق لولي الدم المطالبة بمبالغ تعجيزية، وشدد أيضًا على أن يكون هناك تدخل من المسؤولين بهذا الخصوص للحد من تلك الظاهرة الخطيرة، صحيح أن القاتل أخطأ بحقهم واقترف جرمًا كبيرًا، لكن من تاب تاب الله عليه، فالله يعفو ويصفح والمخلوق يتلاعب في أعصاب الناس كيفما شاء، واقترح الظفيري على صنّاع القرار من أهل العلم والقضاة والأمراء والمسؤوليين في وزارة الشؤون الاجتماعية دراسة هذه الظاهرة الخطيرة ووضع مبلغ معقول يرضي جميع الأطراف، أما المبالغ الخيالية التي يطلبها أهل الدم من المفترض ألاّ يؤخذ بها في الصلح، وأكد أيضًا أن إمارات المناطق قامت مشكورة بوضع حساب لا يمكن التصرف فيها من أهل الجاني، وذلك لإثبات المصداقية لدى أفراد المجتمع، ولمن رغب بالتبرع لعتق الرقاب وهذا يقضي على المبلغ الزائد عن طلب اهل المجني عليه، واستطرد قائلًا: بالإمكان حل هذه المشكلة عن طريق فضيلة القاضي منهي الصلح بوعظ أهل المجني عليه بالعفو لوجه الله تعالى وترغيبهم في أجر العفو المسؤول هم السماسرة واقناعهم لاولياء الدم بطلب ما يريدون من المال؛ لأن للسمسار نسبة من ذلك فكأنهم ينتقمون من أهل الجاني ويتكسبون على ظهره، وسماسرة الاتجار بالدماء أصبحت ظاهرة لا يستهان فيها وليس همهم عتق الرقاب، ولكن ما يبطنونه هو التكسب على ظهور المساكين، ويمكن تفعيل دور بيت مال المسلمين في المحاكم، وتصبح هي الجهة التي تشرف على الديات فمنها ترد ومنها تصدر، كما انه يمكن أن يستفاد من فائض المبالغ بعتق رقاب أخرى لم تجد لها سمسارًا، والصلح على أكثر من الدية أتى لعلاج استيفاء القصاص، ولكنّ تكليف أهل الجاني وعاقلته بمبالغ طائلة لا يمكن تحملها، وتنفي المقصد من العقوبة وهي ردع الجاني وجبر مصاب أهل المجني عليه. شيك بخمسة ملايين ريال قيمة الدية
باحث قضائي: الوقوف بحزم أمام السماسرة مواطنون يشهدون تنفيذ القصاص بين الباحث في الفقه والقضاء الدكتور محمد العضياني، أن الصلح على أكثر من الدية وإن كان جائزًا عند كثير من الفقهاء، إلا أن المشروع لأولياء الدم أن يتنازلوا مقابل مبلغ عادل، لا بمبلغ يستحيل تحصيله؛ لإغلاق فرج العفو عن الجاني أو طمعًا فيما يفنى ولا يعيد مقتولا، كما قال أيضا: أرجو أن تقف الدولة بحزم في وجه سماسرة الصلح، الهادفين للمال لا في الأجر والمثوبة. فيما شدد المستشار النفسي عبدالرزاق الحجي على التمسك بمفهوم المواطنة بشكله السليم الإيجابي، حيث قال: "مفهوم المواطنة العظيم في التربية والأخلاق والالتزام بالواجبات، والانتماء في مجتمعنا يرغمنا في إعادة النظر حول ما ينمو ويشتد ويستجد من قضايا، خصوصا إذا كانت تمس التوافق النفسي للفرد والمجتمع والرأي العام، والتي تجعلنا نتشنج في كثير من الأحيان بمجرد تذكرها في يوم من الأيام!، كما أنه من الواجب على العقلاء المحيطين بأولياء الدم بعد أن يفيقوا من تأثير الهالة التي صدمتهم، أن يسهموا في الصلح بطريقة إنسانية صحيحة وأن يكونوا وسطاء للإنسانية لا سعاةً للمادية؛ لبناء التآلف لأنه أحيانًا كما تدين تدان، فعامل الناس كما تحب أن يعاملوك. محكوم بالقصاص في دار الملاحظة ينتظر العفو مستشار نفسي: للعفو منزلة كبيرة عبر التاريخ قال المستشار النفسي عبدالرزاق الحجي: لا شك أن لكل حدث آثاره المترتبة سواء بالإيجاب أو السلب، ومما يوحي لنا هذا الموضوع أن قيمة الإنسان هي الإنسانية بأكملها، انطلاقا من قوله تعالى: "فكأنما قتل الناس جميعاً"، لا ما ترددت به الأوساط الاجتماعية عن ذكر الكثير من الوقائع حول هذه التجارة الكاسدة التي تلوثت بقيمة الدم الباهت، ليصبح دماً ذا قيمة دنيوية صرفة، فمن أفقده لونه هم ذوو المقتول بنزولهم عن المرتقيات الإنسانية الماجدة التي ربانا عليها ربنا ثم أصحاب الأصول من بني جلدتنا والسابقون العرب الشرفاء، حين جعلوا للعفو منزلته الخالدة عبر التاريخ، وأضاف أيضًا: "لا شيء يقابل الفقد المرير سوى الإنسان المفقود نفسه، فلا شيء يقابله معنويًا، فلماذا نجعل من قيمته فاتورة برقم فلكي لسدادها يحددها البشر بمنطلقات تحيزية داخلية ننادي لأجلها القاصي قبل الداني، ونتناسى ما حدده لنا الشارع الذي هدفه ومبتغاه الصلح بين الفرد ومجتمع ولي الدم، بأسلوب عصري متوازن إذا ما قورن بدخل الفرد بشكل اقتصادي صحيح، فإن ما خلفته الأيادي الجشعة التي رفعت صوتها للتعويض المادي المقيت ليس لغرض اللحمة الاجتماعية والتكافل الجميل والعفو بل لأطماع شخصية" لجنة ذات البين بالشرقية أنهت كثيرا من قضايا الدم مواطنون يشهدون تنفيذ القصاص