«ومن عفا وأصلح فأجره على الله»، نعم، هناك من يعفون لوجه الله تعالى دون أي مقابل، إيماناً منهم بأن فقدان العزيز لا تعوضه أموال الدنيا ولا كنوزها متطلعين إلى الأجر والثواب من عند الله، وفي مقابلهم من يعفون لوجه الله أيضا، لكنه عفو مقرون بمبالغ «مليونية» تعجيزية مستغلين حقهم الشرعي في الدية، ما أدى إلى تواجد عدد يزيد عن المائة وخمسين قضية من قضايا القصاص تنتظر الشفاعة والوساطة وتنازل أهل الدم، إلا أن أهل الدم يظلون على إصرارهم: إما القصاص، أو «دية مسلمة إلى أهله» تتصاعد قيمتها إلى ملايين الريالات . وجراء هذه الحال، تحولت مسألة عتق الرقاب إلى تطلع للماديات على حساب القيم، حتى أن هذا الاتجاه أفسد الوجه الآخر من التسامح والرحمة التي جبل عليها المجتمع، فضلا عن تشويه النماذج الأخرى التي تعفو لوجه الله دون أي مقابل مادي أو معنوي، وأصبح العفو عند البعض مقرونا بعبارة «العفو لوجه المال»، حتى أضحت المسألة وكأنها تجارة تباع فيها الرقاب والدماء وتشترى. هنا، نحقق مع ذوي الشأن في هذه المشكلة التي باتت تقض المضاجع، وتعطل عتق الرقاب الذي حث عليه ديننا الحنيف. مليونان ثمن رقبة ونسرد قصصا للمغالاة في الديات، من بينها حكاية وحيد الذي ظلت رقبته معلقة بمليوني ريال اشترطتها أسرة القتيل للعفو عنه، وتروي والدته «منذ سجن ولدي لم أعد أعرف طعماً للحياة، واجهنا صعوبات على مدى 7 سنوات حتى تمكنا أخيرا من جمع الدية من أهل الخير كي تتنازل أسرة القتيل عن القصاص». 5 ملايين لرقبة سبعيني وفي إحدى القرى النائية في المدينةالمنورة، أنقذت 5 ملايين ريال رقبة مواطن في السبعين من عمره، أدين بإطلاق النار على مواطن ما أدى إلى مقتله، وظل السبعيني في السجن ل 14 عاماً، منتظراً بلوغ أبناء القتيل السن القانونية، والذين قدموا له عفوهم المشروط بهذا المبلغ. وحسين أيضا، أمضى 10 سنوات في السجن في قضية قتل، إلى أن عفا عنه أهل الدم مقابل 3ملايين ريال. 20 مليونا ولا تنازل وحالة أخرى، إذ قدمت أسرة قاتل أمام المحكمة مبلغا وصل إلى 20 مليونا للتنازل عن القصاص، لكن أسرة القتيل ماتزال ترفض هذه الدية وتصر على طلب القصاص!. وهناك الحالة التي اشترط فيها والد حدث قتيل مبلغ مليونين وثمانمائة ألف ريال مقابل التنازل عن قصاص ثلاثة أحداث تتراوح أعمارهم بين 16 18 عاما أدينوا بجريمة القتل وما يزالون يقبعون في السجن، في حين لا تملك أسرهم شيئا من هذا المبلغ. فيما تشهد المحاكم قصصا أخرى على الوجه الآخر، إذ كثيرون أيضا يتنازلون عن القصاص في قضايا قتل تمت دون الحصول على أية دية، وكانت تنازلاتهم تلك خالصة لوجه الله تعالى. وقف للمساهمة توجهنا بالسؤال إلى الشيخ الدكتور علي المالكي، وهو مختص بملف العتق من القصاص ومستشار لصاحب السمو الملكي الأمير العقيد طيار ركن تركي بن عبدالله بن عبدالعزيز: ماالذي يجري في عقول طلاب الدم والمغالين في طلب الديات، وكيف يمكن الحد من هذه المغالاة؟. أجاب مقترحا بل ومناشدا بضرورة إنشاء جمعية تحمل اسم خادم الحرمين الشريفين أو اسم والديه«تكون وقفا للمساهمة والمساعدة والتوسط في عتق الرقاب، ويقوم عليها مختصون وتضم في عضويتها أمراء، مشايخ، علماء، رجال أعمال، ومحسنين، لتعمل تحت مظلة رسمية وبمنهجية محددة تسعى لإقناع ذوي القتيل بالتنازل عن القصاص في حالات تدرسها الجمعية، وبذلك يمكن قطع دابر المتاجرين بالدماء والمتربحين منها من وسطاء ومتنفعين». وكشف المالكي عن وسطاء يشترطون مبالغ كبيرة للسعي في التنازل فضلا عن حالات وصلت فيها الأمور إلى ما يشبه المتاجرة بدم القتيل، مستشهدا بأسر طلبت 10 و12 و50 مليون ريال كشرط للتنازل عن القصاص، ووصف تلك المبالغ «هي من باب التعجيز وليس من باب العفو» ، واستطرد «ولا يمكن وصف من يتنازل مقابل مال بأن تنازله ليس لوجه الله، فالدية حق شرعي، إن استلمته أسرة القتيل أو تنازلت عنه فهو إمعان في الصفح وطلب للأجر، ولكن يمكن القول بأنه تنازل صعب أو تعجيزي إذا كان مقابل مبالغ مالية كبيرة، كمن يوافق على التنازل مقابل عشرات الملايين»، مؤكدا بأنهم عندما يسعون إلى عتق الرقاب، فإنهم لايسعون إلى رفع السيف عن القاتل، ولكن يسعون إلى العفو صلحا عن القاتل وكسب أجره وأجر أسرته « ولتوحيد الصف وجمع الكلمة ولرفع الهمم وإشاعة ثقافة الصفح والعفو والتسامح، والتحذير من حمل السلاح أو الانتقام، إضافة إلى الحد من وجود متاجرة بالدماء من قبل متنفعين ووسطاء يبحثون عن مصالحهم الذاتية، حيث يشترط بعضهم الحصول على مبلغ مقدما كشرط للتوسط في عتق الرقبة، فضلا عن تكبيد مشايخ القبائل والمحسنين أعباء كبيرة». تأخر المفاوضات ويذكر الشيخ محمد الغامدي (قاض متقاعد)وإمام مسجد، أنه لا أحد يحبذ العفو بمقابل، لكن عتق رقبة ولو بالمال أفضل بكثير من تركها دون إنقاذ من القصاص، مضيفا «الكثير من القبائل تسعى للصلح ونحن نساعدهم على ذلك، لكن المفاوضات تأخذ وقتاً طويلاً يمتد إلى شهور وربما سنوات، وقد يكون السبب تأمين المبلغ المالي المطلوب، و بين العفو لوجه الله تعالى والتنازل المشروط بمقابل، هناك من لا يعفو ولا يتنازل حتى ولو دفع أهل القاتل وأسرته وقبيلته الملايين». وفي ذات السياق، قال طلال الناشري أخصائي ورئيس الخدمة الاجتماعية في مستشفى الملك فهد في جدة، إن التنازل عن القصاص مقابل مبالغ مادية كبيرة عادة سيئة لا تنسجم مع روح التسامح والطيبة «أما العفو لوجه الله تعالى فهو أسمى قيمة لأنه يبحث عن الأجر والثواب وليس الأموال التي لا طاقة لأهل القاتل بها، والتي تشعر الآخرين بأن هناك تجارة في دم القتيل». المغالاة تجر إلى العنت والمشقة ويؤكد القاضي في المحكمة الجزائية في جدة الشيخ تركي بن ظافر القرني على أن عددا من المشايخ والفقهاء أجمعوا على أن المغالاة في طلب الدية من قبل أولياء القتيل يدخل أولياء القاتل في عنت عظيم ومشقة كبيرة وهذا خلاف مقصد الشريعة الإسلامية «والمبالغة في عوض العفو عن القصاص هو في حقيقته إمعان وتكريس لإبقاء العداوة وقطع المعروف بين الناس، إذ لاقيمة لعفو ينجو به الجاني من القصاص فيما تهلك أسرته بسبب جمع المال وإراقة ماء الوجه على أبواب المحسنين من أجل توفير مااشترطه أهل القتيل من عوض مبالغ فيه»، وألمح إلى أن الإصلاح بين الناس جانب دعوي، فيشترط فيها مايشترط في الداعية بأن يكون الإصلاح بأسلوب الوعظ الحسن والحكمة والمجادلة بالرفق واللين، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. استجداء العواطف من جهته، يتذكر الدكتور ناصر الزهراني الرئيس التنفيذي للجنة العفو وإصلاح ذات البين في منطقة مكةالمكرمة موقفاً صعباً لأم أمضت عشر سنوات وهي تلهث وتركض عند كل وجيه تستجدي العواطف حتى يتم التوسط لدى أهل الدم ليعفوا عن ابنها، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل بسبب شدة وقسوة أسرة وأهل الدم «حتى أننا ما أن ذهبنا إليهم لطلب العفو، ثاروا علينا وطردونا ورشقونا بالحجارة». ويطرح الدكتور الزهراني تساؤلا مهما، وقال إنه كثيرا مايتعرض له خلال مساعيه واللجنة للعفو عن قاتل: لماذا يحول الوسطاء دون تنفيذ حكم القصاص؟، ويجيب على سؤاله بأن البعض يرى أن الأولى أن يقتل القاتل وأن لا يسعى أحد في العفو عنه، ولهؤلاء أقول: إن الذي فرض القصاص شرع العفو، كما أن هناك جملة من المكاسب تنتج عن العفو منها الحفاظ على نفس مسلمة بدلاً من ذهاب نفسين، وجعل الحزن في بيت واحد وليس في بيتين، فضلاً عن استمرار تواصل الأسر وأفراد القبيلة بدلا من المقاطعة والمشاكل«خصوصا وأن بعض القضايا يكون القاتل والمقتول فيها من أسرة واحدة وفي قرية واحدة وقبيلة واحدة». لجنة وطنية ويقترح المستشار القانوني بدر الروقي، تشكيل لجنة وطنية تتولى الصلح في القضايا المحكوم فيها بالقصاص على الجاني وفق ضوابط وشروط معينة، مشيراً إلى أن العائق الكبير الذي يحول دون إتمام التنازل في قضايا الدم هو الجانب المادي، ومطالبة أهل الدم بدية كبيرة تقدَّر بملايين الريالات تعجز عن سدادها أسرة القاتل، لافتاً «البعض يستغل الموقف ويتعالى في طلب عشرات الملايين للتنازل عن القصاص»، ويضيف: يواجه الوسطاء وأهل الخير صعوبات كثيرة حتى توافق أسرة القتيل وتتنازل وتعفو، فهناك من لا يقابل أحداً من الوسطاء ويرفض حتى مجرد الحديث معه في العفو، وإذا جئته يقابلك بغضب شديد ويطردك، وهناك من يقابلك بحفاوة ثم يعتذر عن التنازل». احترام القوانين وفي ذات السياق، دعا المحامي والمستشار القانوني محمد المؤنس إلى ضبط النفس واحترام القانون واللجوء للقنوات الرسمية لإنهاء الخلافات وحل المشكلات، وخص دعوة أخرى لذوي الحقوق الخاصة في قضايا الدم تحديداً أن يعفوا ويصفحوا عما سلف والتنازل عن حقوقهم «لما في ذلك من أجر عظيم وثواب جليل، والعفو خير من العقوبة وقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسم بالصلح والعفو في قوله تعالى:(فاعفُ عنهم واصفح إنّ الله يحب المحسنين). فكر استهلاكي مادي ولكن، ماذا عن الناحية النفسية في هذه المشكلة؟ يعزو استشاري طب الأسرة الدكتور أحمد عبدالمنعم مشكلة التنازل مقابل الملايين إلى التغيرات التي حدثت في فكر المجتمع، وتعامل البعض مع القضايا الإنسانية بفكر استهلاكي مادي كرسه الإعلام بتناوله لمثل هذه الإشكاليات التي أغرت بعض الفئات على المزايدة في السعر. ويعتقد عبدالمنعم اشتراط الملايين لا يهدف إلى التشفي بل للتكسب والتربح «لأن فقدان العزيز لا تعوضه أموال الدنيا مهما كانت». ويحبذ الدكتور عبدالله سيف، أستاذ الدراسات الإسلامية العفو سواء كان مشروطاً أو غير مشروط «لأنه في النهاية سيؤدي إلى عتق رقبة وإنقاذها، إلا أن الأمر يرجع في النهاية إلى الشرع وأهل الدم، فالقصاص حق خاص لولي الدم وله الحرية التامة في العفو أو تطبيق الحكم». مضاعفة الديات وأبان عضو هيئة التحقيق والادعاء العام سابقا والمحامي القانوني صالح مسفر الغامدي، إن وصول المبلغ إلى 3 أضعاف الدية المشروعة قد يعتبر حدا مقبولا، وما زاد عن ذلك فهو مبالغ فيه، مؤكداً «المبالغة تتسبب في ضياع الأجر، وهي تعجيز لأهل القاتل، وقد تصل لدى بعض أهل الدم المبالغين مابين 5 و8 ملايين ريال»، موضحاً: المشروع هو القصاص، والمستحب هو التنازل لوجه الله، أو مقابل الدية المحددة شرعاً، مرجعا رفع البعض من أولياء الدم للدية والتكليف لأهل القاتل للتنازل إلى أنه نتاج لضعف الوازع الديني، وقلة الوعي بأهمية العفو. وزاد: التسامح من أجل الآخرة وليس من أجل أمور دنيوية، وأبدى عتبه على وسائل الإعلام «المقصرة في التوعية بهذه الظاهرة وإبراز سلبياتها، وأرى أن تناميها سببه مساهمة بعض الفضائيات في الترويج لهذه الظاهرة السلبية وغيرها من الظواهر السلبية». تعويض لا دية ويرى المحامي والمستشار القانوني سعد مسفر المالكي أن ما يطلبه أهل القتيل من أموال مبالغ فيها يُعتبر «تعويضاً» لا «دية»، ويوضح قائلا «الدية محددة شرعاً في قتل العمد وقتل الخطأ، أما التعويض فيكون بعد صدور حكم مؤيد من المحكمة بالقصاص، حيث يطلب أهله تنازلاً عن القضاء، وهي في الحق الخاص ليفتدوا رقبة ابنهم المُدان بالقتل». ويشير إلى أن أصحاب الدم «يقارنون قيمة حياة ابنهم بالمبلغ المطلوب الذي يصل إلى عشرات الملايين أحياناً»، مؤكدا أنه لا يمكن وضع حد أعلى للتعويض أو تحديده «وأي مبلغ لا يمكن أن يعادل قيمة حياة الإنسان الذي كرمه الله، والتعويض إنما هو عملية تراضٍ بين طرفين».