لم يتبقَ سوى أيام معدودة على ذهاب الناخبين الأتراك للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن تبكيرها وسط أوضاع اقتصادية مقلقة وعمليات عسكرية يشنها الجيش التركي خارج أراضيه ومشهد سياسي بات يتسم بظهور تطورات متواترة بشكل يومي واستقطاب مجتمعي قد وصل لغالبية طبقات المجتمع. ولعل ما يجعل هذة الانتخابات مميزة عن سابقاتها هو خفض سن التصويت ل18 عاماً وزيادة عدد مقاعد مجلس النواب إلى 600 من أصل 550 وعودة اللجوء إلى سياسة الانتخابات المبكرة للبرلمان ومنصب رئيس الجمهورية بعدما غابت عن أذهان الناخب التركي لعقود من الزمان. وتتميز هذه المرة بالتعقيد الذي سيواجه الناخب التركي الذاهب إلى مركز الاقتراع المقيد به كي يدلي بصوته في ورقتين منفصلتين؛ ورقة تضم أحزاب تحالفت في مسار الانتخابات البرلمانية والورقة الأخرى تضم نفس الأحزاب لكنها لم تتحالف ورشحت أشخاصاً مختلفين لمنصب رئيس الجمهورية. إذ دخل حزب العدالة والتنمية (الحاكم) وحزب الحركة القومية (اليميني المتشد) وحزب الوحدة الكبرى (اليميني ذو الخلفية الإسلاموية) في تحالف واحد في الانتخابات البرلمانية فيما دخل حزب الشعب الجمهوري (اليساري) وحزب الصالح (اليميني الوسط) وحزب السعادة (اليميني الإسلاموي) والحزب الديموقراطي (اليميني الوسط) في تحالف مضاد له. بينما ينافس على منصب الرئاسة ستة أحزاب لكل منها مرشح وهم الرئيس طيب أردوغان (عن الحزب الحاكم)، ومحرم إنجة (عن حزب الشعب الجمهوري)، وصلاح الدين دميرطاش من داخل محبسه (عن حزب الشعوب الديمقراطي)، وتمل قره مُلا أوغلو (عن حزب السعادة)، ودوغو برينجك (عن حزب الوطن)، ومرال أقشينار (عن حزب الصالح). وعلى الرغم من ذلك، فإن الانتخابات الرئاسية والدعايا للمرشحين حصلت على التغطية الأبرز في أعمال الحملات الدعائية لكل حزب أكثر من الانتخابات البرلمانية، في دلالة على أن كل الأحزاب تنظر إلى منصب الرئيس باعتباره المنطلق الذي سينفذ من خلاله كل حزب رؤيته السياسية المستقبليه لمستقبل تركيا السياسي. وبناءً على ذلك، فقد حرص كل حزب في اختياره لمرشحه الرئاسي أن يكون المرشح مؤهلاً للحصول على تأييد كافة الأطياف المتنوعة داخل كتلة الحزب الانتخابية، وحرص أيضاً على أن تكون شخصية المرشح عاكسة للخطاب الانتخابي للحزب كي يضمنوا أكثر نسبة مشاركة من مؤيديهم. فعلى أرض الواقع، نجد الرئيس أردوغان مرشح الحزب الحاكم الأمثل لتمثيل الخطاب الانتخابي لحزب العدالة والتنمية الذي يعتمد على التذكير باستحقاقات تطوير البنى التحتية، وتنبيه الناخبين بسطوة المخاطر الخارجية التي تواجه تركيا والمتمثلة في التحركات العسكرية للمسلحين الأكراد في شمالي سورية والعراق في الوقت الذي يتواجد فيه الجيش التركي في 11 نقطة عسكرية في منطقة جبال قنديل في العراق وفي ظل استمرار عملية غصن الزيتون في الشمال السوري. حيث تتلخص رسالة الحزب الحاكم للناخب بأن خروج الرئيس أردوغان من السلطة سيهدد المواطن التركي بتعطل عملية البناء والتطوير في مجالات البنى التحتية وقد يحد من قدرة تركيا على مواجهة التهديدات الأمنية القادمة من الحدود الجنوبية. ويعكس خطاب مرشح حزب الشعب الجمهوري محرم انجه أسلوب السخرية من خطاب الحزب الحاكم - في أداء ونشاط بارز فاق التوقعات التي دارت حول شخص انجه عقب ترشيحه - إذ يقدم المرشح سياسات بديلة تتمثل في التركيز على انشاء المصانع وتطوير انتاجية الاقتصاد التركي بدلاً من التركيز على البنى التحتية التي لا تضيف كثيراً للاقتصاد التركي. كما عكس خطابه نية الحزب في تبني سياسة خارجية جديدة تقوم على استخدام العمل الدبلوماسي أكثر من العمل العسكري في منطقة الشرق الأوسط وتقوم على تغيير محددات سياسة بلاده تجاه الدول العربية التي مازالت تشهد علاقات بلاده توتراً مع أبرز الأقطاب العربية في سياسات المنطقة. على الجانب الآخر، تمثل المرشحة مرال أقشينار الخطاب القومي القديم الذي كاد أن يختفي في ظل حالة الرضوخ للحزب الحاكم التي يعانيها حزب الحركة القومية منذ بداية تأييد السياسي دولت بهتشلي المطلق للرئيس أردوغان والحزب الحاكم. حيث تتحدث المرشحة مرال أقشينار بلسان قومي متشدد – تخلى عنه حزب الحركة القومية - يركز على التخويف من خصخصة المصانع والشركات المملوكة للدولة والتأثيرات السلبية جراء الانفتاح المتزايد على المؤسسات الاقتصادية العالمية وقواعد السوق الليبرالي الحر، ويؤكد على قرار إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم فور صعودها لمنصب رئيس الجمهورية. وإذ تشهد المدخلات للعملية الانتخابية حجم كبير من التعقيدات، فإن النتائج والمآلات تبدو أكثر تعقيداً من مجرد خطابات سياسية مختلفة وتحالفات تقوم على المصلحة الانتخابية الأنية وليس التقارب الفكري والأيديولوجي. وفي إشارة لذلك، فإن نتائج استطلاعات الرأي لتلك الانتخابات شهدت تضارب واختلاف يعتبر هو الأكبر من نوعه على مدار الانتخابات السابقة بشكل يؤكد على أن الناخب التركي - وإن كان ينتمي إلى كتلة انتخابية محددة - سيواجه صعوبة في اختيار مرشحه وأن قراره سيكون معلق حتى موعد الإدلاء بصوته. ولم تقتصر تعقديات المآلات على ذلك بحسب، فإن الصعوبة قد تظهر في نجاح أي اتفاق للمعارضة على مرشح يمثلهم في الجولة الثانية وهو أمر في غاية الصعوبة من ناحية اقناع القاعدة الانتخابية لكل حزب بالمرشح الذي ستتفق عليه أحزاب المعارضة، مما يرفع احتمالات فوز الرئيس أردوغان في الجولة الثانية. لكن التعقيدات لا تقف عند ذلك الحد، فإذا تضاربت نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية فقد يبرز التعقيد ذو الاحتمال الأقوى في حال حسم الرئيس أردوغان جولة الإنتخابات الرئاسية الثانية في شهر يوليو ولم يحافظ حزب العدالة والتنمية على أغلبيته داخل البرلمان. ففي تلك الحالة سيواجه الرئيس أردوغان صعوبات في تمرير القوانين اللازمة لإتمام عملية تحول النظام السياسي ومؤسسات الدولة إلى النظام الرئاسي. كما لا يغيب سيناريو خسارة الرئيس أردوغان واستمرار حزب العدالة والتنمية في أغلبية مواقعه البرلمانية بالتحالف مع حزب الحركة القومية وحزب الوحدة الكبرى، فقد يواجه الرئيس البديل نفس الصعوبات التي سيواجهها الرئيس أردوغان في تمرير القوانين التي تعكس رؤيته بشكل يضطره لإعلان انتخابات برلمانية مبكرة جديدة. Your browser does not support the video tag.