فاضت مشاعر الحزن لدى الكثيرين ممن عرفوا الراحل تركي السديري " رحمه الله"، سواء زملاءه الصحفيين المبهورين بشخصيتة الذين عرفوه عن قرب، أو الذين تابعوا مسيرته الصحفية عبر أكثر من 50 عاماً قضاها في بلاط صاحبة الجلالة. كثير من السعوديين والخليجيين والعرب، يتذكرون مسيرة تركي السديري الصحفية الظافرة عبر صحيفة "الرياض" الحافلة بالنجاح تلو النجاح حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من مكانة مرموقة بين الصحف، فبدأ معها فارسها محرراً حتى اعتلى رئاسة تحريرها أكثر من 40 عاماً متواصلة يومياً صباحاً ومساءً، وكانت مسيرة حافلة بالإنجازات الصحافية والإعلامية في تلك المرحلة الذي قاد مسيرة تطورها وريادتها بتفوق وامتياز، حتى تصدرت مقدمة الصحف العربية بتأثيرها ومحتواها ورسالتها، وقد أطلق عليه الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز "طيب الله ثراه" ملك الصحافة، حيث كان السديري رئيس تحرير، ورئيس هيئة الصحفيين السعوديين، ورئيس اتحاد الصحافة الخليجية، وكان شاغلاً الساحة الصحفية في تلك المرحلة بمهارة وتفرد وعنفوان، تتفق معه أو تختلف مع شخصية السديري، إلا أنه كان مؤثراً وبارزاً وساطعاً بدوره الصحفي المناط له بإقتدار وصرامة وحسم، طالما عبّر عن الدفاع عن وطنه بقوة وحرفية في أكثر من ميدان وموقف ومناسبة ومقال، كان ممارساً لمهنته بذكاء حاد إلى حد الدهاء، ولديه فطنة شرسة إلى حد الحذر، وحنكة إلى حد التشدد والحرص القوي والمحاذير الكثيرة، كثير من تأثروا بشخصيته التي تجذب الصحفيين بطريقة تعامله الحاسمة في التعاطي مع الخبر قبل وبعد النشر، حيث شكل حضوره الطاغي وممارساته مدرسة خاصة تسمى "مدرسة تركي السديري" في التعامل مع الصحافة الورقية وإشكالاتها، التي كان طريقها محفوفاً بالمخاطر والأشواك والمد والجزر. وأصبحت طريقة تعامله مع الصحافة سواء على المستوى الإعلامي أو الدبلوماسي وحتى الإداري معشعشة في أذهان مريديه الذين أعجبوا بفترة قيادته للصحيفة بنجاح في تلك المرحلة المزدهرة للصحافة رغم مزاجيته وعصبيته وتوتره ومزاجه المتغلب! كان السديري يجمع ما بين الصحفي المخضرم والإداري الناجح والدبلوماسي المحنك، حيث كانت صحيفة "الرياض" في فترة رئاسته مزدهرة بالكفاءات الصحفية والخبرات المتعددة والإمكانات الكثيرة والإيرادات الوافرة، مما زاد تألقها وعنفوانها وطغيانها، في تلك المرحلة الذهبية التي استفاد منها تركي السديري ليوظفها في صالحه وصالح الصحيفة التي كانت مؤسسة صحفية إمبراطورية، يقودها شخص امتلك كل الإمكانات بيده، وانتزع كل الصلاحيات بجدارة وقوة، وعرف أن يتمسك بكل الخيوط ليكون هو وصحيفته المؤثر والفاعل بقراره المركزي الذي لا يعارضه أحد في اتخاذ قرار فيما يخص الجريدة أو المؤسسة نفسها، وربما المرحلة في تلك الظروف كانت تتطلب هكذا كاريزما حاسمة ليستمر العمل. تركي السديري كان من جيل التأسيس للصحافة السعودية، وسطر مرحلة مهمة في تاريخ الصحافة السعودية لا يمكن تجاوزها، فحقق رؤية بصيرة قوية خاصه به، وبذل جهوداً مضنية أثناء جيل الرواد من أبناء الوطن، في تلك المرحلة الصعبة، وهو من هؤلاء الذين شهدوا ميلاد جيل التأسيس والبناء في فترة لم تكن الموارد المالية والكوادر البشرية والأمور الفنية فيها قد بلغت مرحلة النضوج والتأهيل والتمكين لتأسيس صحافة وإعلام كما نشاهده اليوم في المملكة، فبذل جهوداً صعبة وكبيرة ومضنية خصصها لنجاح صحيفة "الرياض" ودورها وبروزها، وكان صاحب قرار في تعاطيه وتعامله مع الزملاء. كما يحسب للسديري أنه يدافع عن أي فكرة لزميل نشرها سواء خبراً كان أو مقالاً إذا أجيز لنشره واقتنع فيه، وربما يتبناه ولم يتخل عن زميله في هكذا موقف. فكان مخلصاً لوطنه ومخلصاً لعمله، ولديه قناعات لا يمكن أن يساوم عليها أبداً، وله بصمة بارزة وعلامة مضيئة على مسيرة وهوية الصحافة السعودية، وكان عطاؤه يعبر عن صدق الانتماء الحقيقي لبلده بكل شجاعة وبدون مواربة. ربما هناك من يدعي بأنه يعرف شخصية "أبو عبدالله"عن كثب وإلمام تام بممارساته وطباعه، لكني أجزم أني أعرف عنه أشياء ربما لا يعرفها بعض المقربين له، حيث زاملته بالعمل عن قرب، وسافرت معه خارج المملكة وداخلها، واختلفت معه كثيراً، واتفقت معه قليلاً، إلا أن الرجل كريم جداً، ويمتلك مهارات كثيرة ومتفردة في معرفة تقييم الآخرين وإعطاء حقهم، فهو ذكي جداً، وماهر في التقاط الفكرة وتوظيفها في محلها واستثمارها، ولديه فراسة حادة في معرفة الشخصيات وتحليلها، فهو ماهر وحاسم في اتخاذ القرار ومحاسبته لمن يخطئ، وكريم لمن هو ينتج ويبدع ويعطي. تركي السديري تعرض لعدة حالات مرضية وعانى ما عاناه من أمراض أنهكته مبكراً حتى فقد وزنه وذاكرته، أسأل الله أن تكون تخفيف ذنوب، وأجراً، وثواباً، وفي ميزان أعماله الصالحة، رحم الله، فقيد الوطن والصحافة، وعزاؤنا لأسرته وأولاده وزملائه الصحفيين، والوسط الإعلامي، وأصدقاء الفقيد، وإنا لله وإنا إليه راجعون. * المدير الإقليمي لصحيفة "الرياض" بالإمارات د. علي القحيص