أميرة المضحي : المصافحة مفتاح سحري لحواس القارئ الرواية جزيرة مجهولة لا يمكن اكتشافها إلا بقراءتها. الجملة الأولى هي الخطوة الأولى على تراب هذه الجزيرة, يضعها القارئ بين الترقب والخوف والأمل. كثيرا ما تشد الرواية القارئ منذ جملتها الأولى, وقد تبقى تلك الجملة في ذاكرة القارئ طويلا. بنفس الدرجة التي لا يمكن فيها تمجيد الجملة الأولى لجعلها معيارا وحيدا لجمال وفنيّة الرواية, لا يمكن أيضا تجاهلها والتقليل من أهميتها, فما تزال في ذاكرة القراء عدد من أشهر الجمل الافتتاحية, منها افتتاحية ليو تولستوي في رواية (آنا كارنينا): "كل العائلات السعيدة تتشابه, لكن لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة", كذلك افتتاحية تشارلز ديكنز في رواية (قصة مدينتين): "كان أحسن الأزمان, وأسوأ الأزمان, كان عصر الحكمة, وعصر الحماقة, عهد الإيمان والجحود, كان زمن النور وزمن الظلام, كان ربيع الأمل, وشتاء القنوط", فتشعر منذ الجملة الافتتاحية أنك أمام ملحمة تؤرخ لعصر كامل. ومن أشهر الافتتاحيات وأكثرها مفاجأة للقارئ افتتاحية فرانز كافكا في رواية (المسخ): "عندما استيقظ غريغور سامسا في الصباح وجد نفسه قد تحول إلى حشرة عملاقة", ومن أكثرها جذبا للانتباه افتتاحية أورهان باموق في رواية (الحياة الجديدة): "قرأت كتابا ذات يوم فتغيرت حياتي كلها". وقد أجرى أحد المواقع المهتمة في إحدى السنوات استفتاء عن أفضل مئة افتتاحية روائية, مما يعكس الاهتمام الكبير لدى القراء بهذه الخطوة الأولى. فكيف يكتب الروائي جملته الأولى في الرواية؟ وما هي أهميتها بالنسبة له؟ وللرواية ككل؟ طرحنا هذه الأسئلة على عدد من الروائيين, فأجابت الروائية السعودية أميرة المضحي بقولها: "الجملة الأولى هي فاتحة لكتابة الرواية مثلما هي فاتحة لقراءتها، والتي تلج بالروائي والقارئ معاً إلى ثنايا النص، بكل تعقيداته. هي المفتاح السحري الذي يسعى الروائي عبره إلى الإمساك بتلابيب القارئ والاستئثار على حواسه في أغلب الحالات، أو لخلق رمزية ما لرؤية الكاتب وفلسفته. كما أن القارئ يبحث فيها عما يجذبه لسبر أغوار الرواية والتعلق بها، برغم أن الافتتاحية المؤثرة ليست دليلاً دائماً على أهمية العمل أو براعة كاتبه". ثم تتحدث عن تجربة شخصية قائلة: "في روايتي الأخيرة (يأتي في الربيع) والتي افتتحتها بجملة "في البدء كان الشك! جمعنا الشك وفرقنا اليقين، فالشك بداية الحب وبداية الجنون أيضاً، لكن الحزن ينهيهم معاً، فهل أعيش بدايته أو نهايته؟" شكلت لي الجملة الأولى فاتحة للحالة الفلسفية للشخصية الرئيسة، ومرتكزاً ضرورياً تنبئ بحالة التأرجح بين الشك واليقين، في ذروة الضعف الإنساني للشخصية، والذي شكل منعطفاً رئيساً لحياتها المستقبلية". كما قال الروائي الإماراتي عبدالله حسين السوادي: "الجملة الأولى في الرواية هي بمثابة تذكرة يمنحها الكاتب للمتلقي كي ينضم إليه في رحلته الكتابية، والإخفاق في تقديمها بصورة باهتة تخلو من براعة الاستهلال، قد يعطي انطباعاً سلبياً عن المضمون بغض النظر عن قيمته ومستواه, ولأهمية الجملة الأولى يجب أن يتبناها الكاتب كعملية اختطاف مشروع للمتلقي، لكن لا يعني ذلك أن يظن الكاتب أن المتلقي قد يكون على قدر من السذاجة، ليتحمل عناء ما بعدها فيما لو كان المضمون هزيلاً، ولا تتوافر فيه عوامل شد انتباه المتلقي", ويكمل السوادي: "الكاتب الحقيقي هو من يضمن استمرار بقاء من يقرأ له حتى النهاية، مع الحرص على تقديم صورة جميلة للمتلقي في المصافحة الأولى التي يجب أن تكون نابضة بالحياة، ومشوقة وواقعية، ولهذا نستطيع القول إن الجملة الأولى هي أيضاً مراسم استقبال، يجب أن يكون لائقاً بما يكفي". وقال الروائي الموريتاني محمد ولد محمد سالم: "ليست لدي تقاليد خاصة لكتابة الجملة الأولى من الرواية، ولا أنظر لها في انفصالها عن بقية الفقرة أو الفصل الذي تبدأ به الرواية، وأظن أن الأهمية ينبغي أن تصرف إلى الحدث الأول، والطريقة التي بها يستطيع أن يدهش القارئ، ويجذبه إلى الانجراف مع النص الروائي، دون توقف. صحيح أن بعض الكتاب اهتموا بجملة البداية، وبرع بعضهم صياغتها، وكان ذلك سببا في اشتهار عدد لا بأس به من الجمل أصبحت معروفة، ويكررها القراء على أنها أجمل الجمل الاستهلالية في الرواية، لكننا عند الفصح سوف نجد أن تلك الجمل لم يكن لها أن تلقى ذلك الاستحسان لو لم تدخل في نسيج حدث مدهش، هو الذي يسيطر على ذهن القارئ، ويجعله متلهفا لمعرفة ماذا بعد، ونعرف أن هناك آلاف الروايات التي بدأت بصياغات لغوية جميلة، بجمل متأنقة، لكن تلك الجمل لم تكتب لها الشهرة لأن أحداثها كانت باهتة، ومسارها مترهل.. ما جعل الرواية ضعيفة، وليس فيها ما يلفت الانتباه". وأضاف صاحب رواية دحّان: "هناك عدة استراتيجيات يعرفها الروائيون لصياغة ذلك الحدث المدهش المغوي بالقراءة، المهم فيها أن يكون الحدث مبهما وغير عادي، يدخلك إلى عالم الشخصية أو الشخصيات قبل أن تتعرف عليها وتعرف هوياتها، فيبقى السؤال الملح من هو هذا الشخص، من هو هذا "الكولونيل بويندا" الموقوف للإعدام، هنا تبدو قيمة البداية، وأهميتها القصوى في الرواية، إنها صناعة الدهشة الجاذبة". عبدالله السوادي : الافتتاحية يجب أن تكون نابضة بالحياة محمد ولد محمد : دهشة البداية لاتكفي