- من صياغة عنوان (الحمام لا يطير في بريدة) نجد الحس التسويقي حاضرا. هذه المسألة لا تعني بالنسبة لي مجرد عنوان فالأمر يذهب أيضا إلى النص فنجدك تستحضر لقطات تعتقد بأنها هي الرائجة لدى القارئ السعودي. وكأن يوسف تدرج من العنوان الشعري في رواياته الأولى إلى العنوان التجاري ..هل يعني أن مفاهيمك في كتابة الرواية تغيرت ..أصبحت تحدد قارئك المستهدف وتكتب روايتك؟ صدّقني لو كان العنوان "الحمام لا يطير في براغ" أو "في أديليد" أو "ماكوندو" لقلت في داخلك: الله، ما أجمل هذا العنوان! وسيكتمل انبهارك أكثر بالعنوان حين تجد أعلاه: اسم كونديرا، أو كويتزي، أو ماركيز، المشكلة هي في حساسيتك كقارئ محلي تجاه المكان الذي تعرفه، تنتمي إليه، تحبه، وهو طبعا سيلفت نظرك حينما يكون على غلاف أو مجلة، ولا أرى غضاضة أبدا في أن يلفت نظرك العنوان، أو الغلاف، فهما البوابة الأولى للنص. بكل أمانة لا أعرف أن كان محفوظ في "القاهرةالجديدة" وكنفاني في "عائد إلى حيفا" وهلسا في "ثلاثة وجوه لبغداد" وجابر في "بيروت مدينة العالم" وعبدالمجيد في "لا أحد ينام في الإسكندرية" و... و... كانوا يبحثون عن عنوان تجاري، كما يشير سؤالك؟ وغيرهم كثير من كتاب العالم؟ شخصيا لا أعتقد ذلك، إنما طبيعة النص وفضاءاته هي ما يحدد العنوان. أما تساؤلك حول تدرج العناوين لديّ فهو كلام غير دقيق إطلاقا، لأن آخر عناويني كان "نزهة الدلفين"، وهو عنوان شعري كما أظن، أوجب اختياره طبيعة النص الروائي نفسه، فالعنوان كما أظن هو جزء من طبيعة النص وينبئ عما في داخله. المسألة ليست أن العنوان محلي أو أجنبي، المسألة تكمن في علاقة العنوان بموضوع الرواية، عبدالله بن بخيت نجح في عنوان روايته (شارع العطايف) وهي رواية محلية المرتبط بعوالم روايته. وهذا ما لا أجده في روايتك؟ أنت تعتبر ذلك نجاحا، ومن حقك كقارئ، لأن من السهل أن أنقل لك أحداث (شارع العطايف) ومن يسكن فيه، أو حي (الشميسي) ومن يسكن فيه، أو (عمارة يعقوبيان) ومن يسكن فيها، أو (عمارة الباخرة) أو... أو... ومن السهل أيضاً لأي قارئ مبتدئ الربط بين اسم مثل هذه الروايات وعوالمها، لكن قد لا تجد ذلك في عناوين أخرى مخاتلة، تشير ولا تقول كل شيء، أحب فلسفة إلبرتو مورافيا حين وصف العنوان بفستان المرأة، إن كانت بلا فستان تماما فهي مفضوحة وممجوجة، وإن كانت ترتدي فستانا يغطي كل شيء فهي عصيّة وغير مفهومة، أجمل العناوين هي ما يجذب، ما يوحي وما تلتقطه خلسة في جملة أو عبارة أو مقطع، لتقرأ مثلاً (زئبق) لإميلي نوتومب، ستلتقط حكاية الزئبق خلسة في العمل، ولو لم تفعل ستقول لنفسك ما معنى العنوان؟ باختصار لم أرد أن أجعل روايتي امرأة لا ترتدي شيئاً كي تستطيع أن ترى. لكن، هل هاجس الترجمة تدخل بشكل أو بآخر في عوالم النص؟ لا طبعاً، وليس ذنبي أن أعمالي تترجم وتحقق رواجاً في الخارج، لحسن الحظ أن أحداً لم يسألني حين كتبت "فخاخ الرائحة" عما إذا كنت أغازل نيويورك أو باريس أو روما، فقد كتبتها ومنتهى طموحي أن يهتم بها ناشر عربي، ويقوم بطباعتها دون أن يحّملني عبء الطباعة والنشر، لذلك أجدني أقول بأن هذا الهاجس الذي ذكرته في سؤالك قد تجده عند آخرين، لكنه بالنسبة لمن ترجمت أعماله إلى أكثر من لغة، لا يكون هاجساً، ولا أظن أن الترجمة تعني له الكثير، أما إذا كانت الكتابة عن حالات إنسانية مستلبة، وتشخيص حالة مجتمع، والانتصار لقيم الحرية والبحث عن الخلاص الذاتي للإنسان هي مما تهجس فيه الترجمة أو الثقافات الأخرى، فأعتقد أنها من حق الجميع للكتابة عنها، وهي قيم يؤمن بها كل روائي حقيقي. هناك من يرى أن يوسف بارع في البناء السردي ..لكن مضمون النص أقل ..بحيث أن التقنية السردية في رواية الحمام لا يطير في بريدة أعلى من محتوى النص سواء على مستوى الأحداث أو اللغة؟ كل هذه الأحداث والعوالم وتعتقد بأنها أقل من التقنية السردية؟ هل قرأت الرواية فعلا؟ بدأت أشك أنك جهّزت أسئلتك لأسباب صحفية مهنية فحسب! أما اللغة فأقصد أن يكون مستواها مباشر تماما، لست بحاجة إلى لغة شعرية في هذا النص، هذه رواية ساخطة، لا تحتمل أكثر من لغة الغضب، مستوى الحنق في أقوال شخوصها وأفعالهم يكاد يسيل من الصفحات، وتريد مع ذلك لغة شعرية مثلا؟ ثم إذا كان هناك براعة في البناء السردي كم تصف، كيف يكون المضمون أقل؟ كيف تشخّص المضمون منفصلا على حدة، هل يمكن الفصل إلى هذا الحد؟ دعني أعطيك مثالا عابرا كي تفهم أن المضمون ليس مهما ومؤثرا إذا لم يكن ثمة بناء سردي أصيل، فرواية "رجل بطيء" لكويتزي الصادرة عام 2005 تتحدث عن رجل يقود دراجته ثم يتعرض إلى حادث، ورواية "فتاة من شارتر" –والحمدلله إنها ليست من بريدة- للروائي الفرنسي بيير بيجي، تتحدث عن طفلة تتعرض إلى حادث سير، ثم يشتغل السرد وبناء الرواية على عالم ما بعد الحادثة، فهي إذن حادثة عادية، ومضمون بسيط في مقاييسك، لكن العبرة في البناء السردي والالتقاط الذكي لهذه العوالم الروائية، مشكلتك –يا طامي- أنك لا تقرأ إلا الرواية السعودية، ولا تحاور إلا الروائيات والروائيين السعوديين، حتى وإن كان بعضهم لا يمتلك خبرة في السرد أو كان في البدايات، هذا أمر لا يحقق لك التنويع والانفتاح على الجديد واكتساب خبرات القراءة، ومن ثم لن تتطور رؤيتك ولن تتسع تجاه الرواية. إذا كنت لا اقرأ إلا الرواية السعودية ولا أحاور الا الروائي السعودي وهذا لا يجعل رؤيتي تتسع تجاه الرواية كما تقول ..فهل قراءتي لرواياتك وحواراتي معك تقع ضمن هذه الحالة التي تجعلني لا أتطور ؟ لا يا عزيزي، حوارك معي يطورك، لأنني لست من كتاب البدايات، فقد كنت أكتب السرد في مطلع الثمانينيات، حينما كنت فيما يبدو طالبا في الابتدائية –هذه من قبيل المديح بأنك صغير السن- وذلك يعني كسبك لخبراتي في القراءة والكتابة مذاك الوقت. الأمر الآخر هو أن حضوري كروائي في العالم العربي والأجنبي –للأسف- أكثر من حضوري هنا، كروائي محلي، وما قصدته في إجابتي السابقة أنك تحاور الكل، ليس لديك فرز جيد فيمن تحاور في مهنتك الصحفية. حادثة الحرم لها أهميتها التاريخية.. وهي ما تزال كحادثة حاضرة في أذهان أجيال من أعمارهم تتجاوز الأربعين. وأيضا هناك أجيال تنتظر من روايتك التي اتكأت على هذه الحادثة رؤية ما. إلى أي حد كان هاجسك في تدوين تلك الحادثة؟ أنا لا أريد أن أدون الحادثة، ولا أريد أن أوثق تاريخ الجماعة السلفية المحتسبة، كيفية نشأتها وظروفها، أو نشاطاتها وبداية اختلافات أعضائها، وحتى دخولها إلى الحرم، معظم هذا موجود ومدوّن، فما يعنيني هو أن هذه العوالم والفضاءات كان لها تأثير على الشخصية المحورية في روايتي، ومستقبل حياته، إضافة إلى ظلال هذه الأحداث على المجتمع، وإدخال هذا المجتمع في غفلة مزمنة، لكنني لست أراهن على تتبع تفاصيل الحادثة ورجالها، وكيفية نهايتهم، إلا في حدود ما أريد، في حدود ما يستلزم بناء تاريخ الشخصية، المسألة ببساطة تشبه الكاميرا فحسب، أنا أقود عدستي إلى ما أريد، وحينما تريد أنت، أو قارئ ما آخر، أن يسلبني العدسة ويديرها إلى ما يريد، سأدافع عن ذلك بضراوة، لأنني اكتسبت هذه العدسة وطورتها على مدى عشرين عاما، وهي عيني وبصري التي أرى فيها، ولن أعيرك إياها كي ترى ما أراه. كروائي صاحب تجربة سردية استغربت الاتكاء على حادثة الهيئة في خلق درامية للعلاقة العاطفية بين فهد وطرفة. اعتقد أنها قضية تم استهلاكها روائيا. لذا لم تفتش عن رافعة جديدة لخلق أكشن عاطفي مبتكر؟ أيضاً أعود بك إلى خدمة الحدث والواقعة بالتكنيك الذي أشتغل عليه، وهو المهم، لا يهم إن كانت حادثة هيئة أو شرطة أو أسرة أو ما شابه، لأن كل هذه الرافعات –كما تسميها- هي موجودة ومتوفرة، وطبعاً أنت تعتقد أنها مكررة ولا تضيف شيئاً، لأنك تنظر ببساطة إلى الحادثة مجردة من صيغة عرضها وكيفيته، أنت لا تنظر –للأسف- إلى شروط وجماليات البناء الروائي، إلا من خلال الحكاية، وأنا أحترم ذلك، لأن هناك آلاف من القراء يستمتعون أو يغضبون من تفاصيل الخيط الدرامي فحسب، وكلا الفريقين، سواء من استمتع أو من غضب، لا يدرك أسباب ذلك، فمثلا من استمتع يقول لي حين يصادفني أنني أمسكت بالرواية ولم أتركها إلا بعدما انتهت، وبعضهم يقول أنني لم أتمنى أن تنتهي أبدا، السر هنا عندي كروائي ومدرك للأدوات والتكنيك الروائي، وليس بالضرورة أن يدركه القارئ، أما من غضب فتجده دخل إلى النص دون أن يدرك كيف يقرأ رواية، لا يدرك ما هي الرواية، بعضهم يعتقد أن الأفكار والمواقف يجب أن تكون محتشمة، وهذا الموقف عيب، وذاك فيه تجني، وعلى الرواية أن لا تخوض هنا، أو هناك و...و... لكن ما يخصك، ويخص أبجديات الصحفي في المجال الثقافي تحتم عليه أن يقرأ وأن يفهم، يفهم جماليات النص، يعي بأن الأهم هو كيفية الأداء السردي لا الحادثة والواقعة فحسب، والأكثر قلقا أن يأتي الصحفي بأسئلته كما لو كانت حقائق، وكأنه يملك الحقيقة والدراية بفن الرواية، رغم أن تجربته القرائية وذائقته النقدية قد لا تسعفه بمراجعة أفكاره ورؤاه. في حواري معك عن رواية القارورة قلت (ما الأمر يا طامي؟ هل كنت معي لحظة الكتابة؟ يبدو أن حساسيتك عالية جداً تجاه الكتابة الروائية؟ ) والآن تقول لا افهم في جماليات النص ولا كيفية الأداء السردي .كيف أفسر هذا الرأي المتناقض؟ لأنك نجحت في قراءتك هناك وسبرت تكنيك الكتابة بوعي، وفشلت هنا، أو حتى أخفف الأمر ولا أصدمك، قد تكون حساسية كل منا تبدلت، وهذا لا يعيبك يا عزيزي، ولا يعيبني أيضاً، فقد نتخلف جذريا حول رواية من الروايات التي نقرأها معا، وهذا أمر طبيعي، ففي الوقت الذي تشعر بنجاح عمل ما، أرى أنا فشله، لأنك قد تنصرف مثلا إلى السيكولوجي فحسب، بينما أنصرف أنا إلى التكنيك واللغة والبناء والدراما... وهكذا. منحت الأب بريق مثالي في نضاله ما قبل وما بعد السجن..هذا المثالية في اعتقادي أطاحت ببناء تلك الشخصية. كانت معطياتها وتحولاتها على المستوى الفكري والحياتي مشروع شخصية مفضلة لدى ذاكرة القراء.. لماذا جعلت سليمان باهتا؟ من قال ذلك، لو كان مثاليا صرفا، على الأقل من وجهة نظر الجماعة التي التحق بها قبل السجن، لما انهزم وتراجع حينما بدأ الأمر يتجه إلى التسليح، أليس ذلك يعد تراجعا مبكرا عن مبدأ، البريق المثالي في النضال يا عزيزي، هو أن يموت الإنسان دون مبادئه، لا أن يستيقظ في داخله الخوف الإنساني الطبيعي، أو الانهزام عن الصدع بالحق كما يراه قادة الجماعة المحتلة، أو عودة العقل أو عودة الكائن إلى رشده كما تراه أنت أو أنا، أليس ذلك جزء إنساني مهم في الشخصية؟ كما أنه يعتبر في نظر العائلة مجرد خائن، حين تجاوزها وارتبط بامرأة أجنبية كما يرونها، هل في هذا مثالية واحترام لتقاليد العائلة الكبيرة؟ قد تكون أحببت الشخصية، ومعك كل الحق، ورغبت بأن تكون حاضرة بصورة أكبر، من خلال منحها فرصة سرد قصوى، لكنها تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية لدى السارد. أما حالة سليمان بعد السجن، فهي حالتان، ما بعد السجن مباشرة وهي حالة إحباط ويأس ومحاولة انتحار، ثم بعد ذلك حالة وظيفة وعمل وطموح، تبعتها حالة تأمل وخمول طبيعي، حالة بحث عن استقرار وهدوء، حالة حلم بأسرة وبيت وقهوة مرة ونافذة تفتح على شارع مجاور، حالة خوف من المستقبل، حالة اكتشاف حقيقي للحياة، فلم يكن في وضع يسمح بأن يجعل منه غير ذلك. كل ما يحدث من ظواهر في المجتمع ..إلى الحد أنني قلت أن يوسف لم يترك شيء لم يتحدث عنه في روايته ..هل في اعتقادك أنك في روايتك الخامسة ما تزال بحاجة إلى رواية تتكئ على موضوعات اجتماعية بهذه الكثافة؟ لست أنا الذي بحاجة، بل مناخ الرواية وعالمها وطريقتها في اتخاذ أسلوب السردي اليومي، هي ما يحتاج إلى كل هذه الحوادث والتفاصيل المحتشدة، ليتك تبحث في جوجل عن رواية "النمر الأبيض" للروائي الهندي أرفيند أديجا، الحاصلة على بوكر العام الماضي، التي تناولت كل ما يحدث في الهند من انتهاكات وفوضى وفساد، فطبيعة الرواية هي ما يحدد موضوعاتها، روايتي كانت رواية حياة، رواية موت، رواية مجتمع بأكمله، حتى وإن كانت بشخصية محورية واحدة أو اثنتين، هي رواية تسعى إلى رصد بعض التحولات المجتمعية، أي أنها ليست رواية بخط واحد، بل رواية متشظية، ليست رواية حب، أو خيانة، أو جريمة قتل، وليست رواية تأمل وذات حركة بطيئة، السرد فيها سريع ومتلاحق، لأنها تتناول مجتمع سريع ومتلاحق ظاهريا، حتى وإن كان في عمقه بطيء التحولات الثقافية والفكرية. دعني أعطيك مثالا آخر، ما الموضوعات في روايتي الأولى "لغط موتى"؟ مجرد روائي يحاول أن يكتب رواية ويتعرض لمشاغلة الشخصيات واعتراضهم، وما الموضوعات في روايتي الثانية "فخاخ الرائحة"؟ التحول من الصحراء إلى المدينة وموضوع الرق مثلا، في "القارورة" ستجد الخديعة وتزوير حياة بأكملها، فلا تعتقد أن أمر الموضوعات مرتبط بالرواية الأولى أو الخامسة، بل بظروف الرواية وأحداثها وشخصياتها. ما يزال الروائي السعودي يجتهد في صناعة حكايات حب آسرة. وانشغلت في علاقة فهد بطرفة بتوصيف المواعدات سواء على مستوى المكان أو الممارسات الحسية. لكنك أغفلت البعد النفسي العاطفي. لم يكن هناك توازن بين سرد المواعدة وبين تعميق الحالة العاطفية؟ الرواية ليست سوبر ماركت يا طامي، وكثيراً ما أكدت لك في حواراتنا الجانبية على ذلك، فهذه الرواية تعتمد الأحداث والحالة الاجتماعية السائدة، وما يحدث من علاقات جنسية في النص، هي وصف للحالة، سواء على مستوى المكان أو الحدث، أما البعد النفسي في المواقف، فهي من جهة لا تعتمد السيكولوجي كمحرّك للنص، ومن جهة أخرى سيستطيع القارئ الفطن أن يلتقط إضاءات السيكولوجي الضرورية من قلق الشخصية وأفعالها أثناء الوقائع، ليتك تعيد القراءة بهدوء، وتتأمل ما قبل لحظات اللقاء، والقلق الذي ينتاب الشخصية المحورية، ما بين الروحانية ونشد المتعة والقلق لحظة مرور وقائع عادية عابرة في الشارع، والتخيل بالتورط في موقف تدميري له. الرواية في نظري مشروع لا محدود من الاقتراحات، وحين تقع بين يدي قارئ حر، ستصل إليه حتما، أما القارئ الذي تحاصره الفكرة المسبقة، حتى لو كانت فنية، فإنه سيتوقف مرارا، لأن النص الذي يقرأه، خالف القالب الجاهز في أعماقه. وصفك السردي للشخصيات وصف برّاني فأين أجد الإضاءات السيكولوجية؟ لأنني لا أريد أن أكتب الرواية الروسية في القرن التاسع عشر، لا أريد أن أكون دوستويفسكي، هذا أمر، الأمر الآخر هو أن السيكولوجي أو النفسي قد تلتقطه يا عزيزي من مظهر خارجي أو براني، لا أحتاج أن أنقل لك وسوسات النفس وخلجاتها، لكن سلوكها الخارجي وتصرفاتها قد تكشف لك ذلك، فالقارئ الفطن سيلتقط هذه الأفعال اليومية العابرة، قلقها وارتباكها، دونما أدخلك عنوةً إلى نوازع النفس، ببساطة روايتي ليست سيكولوجية بالمفهوم التقليدي القديم، ولا تسعى إلى ذلك. شخصية العم هي شخصية نمطية لكل الشخصيات التي تم استحضارها روائيا من ذلك التيار. ألا تعتقد أن هناك أنماط مغايرة يستطيع الروائي تدوينها لكي يشعر القارئ أن الروائي لا يبتكر نماذجه الروائية؟ ألا تعتقد أنت أيضا أنك قصرت نظرك عن ملامح هذه الشخصية ونموها، منذ أن كان أفضل العائلة، وأكثرهم رضا عن الذات، وطاعة للكبار، ثم الشعور المتضخم بالأنا وحب الذات والأنانية والجشع، لكنك ستجد شخصية مغايرة تماما، في الرواية ذاتها، حتى لو لم تأخذ مساحة واسعة من السرد، لكنها حاضرة عبر الآخرين، فشخصية عبدالكريم حتى وأن كان متطرفا، واختفى بغموض في نهاية الرواية، إلا أن حالة الحب والحنين لدى طرفه نحوه كانت شكلا مغايرا للسائد عن هذه الفئة من مجتمعنا، شخصيا أحببت هذه الشخصية وأحسست بأنها غامضة ونبيلة وتؤمن بمبدأ وتقاتل لأجله، خلافا لانهزام سليمان عن مبادئه وتراجعه قبل ربع قرن، وكذلك هو نقيض لحالة العم المستغل والمتلون في الرواية. العم يستنزف النساء ويسترقهن بطريقة بشعة، بينما عبدالكريم كان ودودا ومهذبا مع زوجته طرفه، لكنها لن تكون أقرب مودة وشغفا إلى قلبه من الجهاد، ما أقصده أن مساحة السرد الأكبر للعم هي ما جعلتك لا ترى سواه، لكنك لو أعدت القراءة بهدوء ستكتشف ما لم تكتشفه في القراءة الأولى. اعتقد أن الروائي السعودي ينحاز لبطله.. ودون أن يشعر يجمل بطله وأقرباء ذلك البطل في النص. لذا لولوه أخت فهد منحتها براءة كاملة.. لم تفعل ما فعلته طرفة أو ثريا .هذه الحالة الطهورية في شخصية لولوه هل كانت متعمدة؟ صدّقني لو جعلتها تفعل ما فعلته طرفة وثريا، لقلت في سؤال افتراضي متوقع آخر، لماذا جعلت كل النساء في روايتك لعوبات؟ ألا يوجد بنت طاهرة ومحتشمة؟ هي مصيبة ذهنية القراءة المسبقة، حينما تبدأ في قراءة رواية وأنت تدير في ذهنك طاحونة البحث عن الأسئلة الصحفية، ولكي أرضي شغبك، فشخصية لولوة في معظم أجزاء الرواية كانت صغيرة، فهي بريئة فعلا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم تكن هي من الشخصيات المحورية الرئيسة حتى ينحاز إليها السرد.