كلما فتحت باب الزجاج فاح من خلفه بوح الياسمين.. أجرب أن اجمع ما يقوله في قوارير الحبر تلك المصفوفة فوق الشرفة ولكنه يعاود الانفلات من جديد، يفتح القارورة وينتشر كخيول فرت من سياجها نحو البحر.. الياسمين هنا ليست الزهور بألوانها.. الياسمين في حكايات البشر وفي الخطوات التي نسمع قرعها آتية من مكان بعيد.. كل منا حاول يوما أن يزرع الياسمين، وأن يضعه بقلبه.. وهناك من استطاع ذلك وهناك من وجد نفسه وحيدا في داخل الممر.. أعشق طويلة اللسان.. ولا أخشى من «العقرب» الياسمين تلمس كل شيء فينا، فإما أن تحولنا إلى "ملائكة" أو تجعل منا كائنات في منزلة "البشر".. "بوح الياسمين" هي قلوب مؤثثة بالتوق إلى أشياء عشناها.. وأخرى لم نلتقها، تبوح كروح تسربت إلى الفضاء فذابت مع الشمس لتمطر كل الكلام في بوح طويل. هكذا هو الحب يا بخيت.. أن تصبح درويشاً لمن تهوى لطالما أراد "حمور زيادة" الروائي السوداني الشغوف أن يغطي عالمه في السودان بالياسمين الذي منذ طفولته وهو يتمرن على رسمه في لوحات حياته، كلما مر قريبا من السور الذي يفصله عن البساتين وسمع غناء الأشجار وهي تراقص النبع ابتسم وقال لنفسه:(سأنتظر.. فالتحولات لا تأتي إلا ببطء).. هناك خرج بقلمه الصحفي ليكتب عن السودان التي يشتهيها، وهناك أدار ظهره لبيت قلبه الذي هوى وغادر في رحلة مجهولة لعله يلتقي من الصعب أن تكتب عن السودان دون «تصوف» "الياسمين" تلك التي اختصرها في رواية "شوق الدرويش بقوله (هكذا هو الحب يا بخيت. هكذا هو الحب، أن تصبح درويشا لمن تهوى).. ففضل أن يحصل على الحكمة من أقاويل "المخابيل" وأن يعيش البوح في رائحة الأرض التي تأتي إليه محملة بالتوق.. وأن يقترب من الدرويش الذي لا يشبه شوقه أحد.. فيتأمل تلك الحالة التي تشبه التصوف في حضورها ولكنها ليست "تدينا" كاملا، فحمور يدرك بأنه متناه جدا مع الحالات التي تخلق منه حالة كتابية مختلفة، كلما أراد أن يسردها عاش حالة التوق الكبيرة إلى سلم يرتفع به نحو فكرة "الاحتمال" التي يؤمن بأنها موجودة حتى إن تأخرت، وبأن الطريق الطويل ذاك المشبع بالحزن والمخاوف والذاكرة لم يقطعه بمفرده فقلبه الطيب مستقر في مكانه، ومشغول في إسعاده.. لا يمكن أن أقطع ميلاً واحداً دون امرأة إلى جواري حمور زيادة الذي بدأ الكلام معي بإيمانه بالسواد الذي يراه أساس الطيبة والإشعاع الحقيقي دون أن يناقض الحالة التي ينتمي إليها في ذات السياق.. عن الممر الطويل الذي عاشه وتخطاه، ثم ينهى حديثه بإيمانه بأن البوح لابد أن يفهمه كل من لامس روحه واستقر هناك في المنطقة المرتفعة.. مؤمنا، واثقا بأن من تقف خلف الباب المغلق في الحياة وتنتظره تعرف نفسها. وستفهم حينما تقرأ هذا الحوار.. الطرق المؤصدة: * نسير إلى مصائرنا في هذا الكون الذي يتآمر كل شيء فيه حتى يدفعنا لنلتقي بأقدارنا التي تختارنا لتضعنا عند مفترق الطرقات لخيارات في الحياة قد تشبهنا وقد تختلف معنا.. كيف كان شكل المصير في حياتك؟ وأي الخيارات تلك التي وضعتك عند مفترق الطرق؟ * خيار خروجي من السودان، كان ذلك خياراً اضطرارياً. وقفت في لحظة ما لا أعرف ما عليّ أن أفعله. وبدت لي كل الخيارات طرق موصدة، وليس أمامي سوى طريق المطار. تحركت ولا أعرف ما بعد سلم الطائرة. حملتني رحلة ليلة للخطوط الجوية الأثيوبية من مطار الخرطوم إلى مطار القاهرة، وأنا تقريباً بلا خطط. لكن بعد عام بدا لي انه كان الخيار الأمثل. اليوم، بعد 8 سنوات من هذه اللحظة، أعتقد إن ما بدا لي ليلتها ككارثة أحرقت سفني، كان خياري الأفضل الذي دبرته لي الأقدار. الانتظار: * عشت حياة غير عادية من رجل امتهن الكتابة التي تعني اشعال القلق الدائم.. حتى آراء متفجرة جعلت الجميع يتحفظ عليك في صندوق المخاطر.. وكأن هناك شيئا ما يربطك بفكرة التحول السريع. وبقيت "السودان" طرفا من ذلك الخيط.. هل يسكنك عتب محب تجاه السودان لأنها تخلت عن الرجل الذي لطالما حمل همها؟ أم أنها لم تكن يوما طرف من ذلك الخيط؟ * لم أؤمن قط بالتحول السريع. أنا رجل "فابي" بطبعي. حين كان هانيبال يتقدم نحو روما، كان النبلاء منزعجين، لكن النبيل فابيوس كونكتاتورد وحده كان يؤمن بالانتظار في هدوء لتأتي اللحظة المناسبة. كان هانيبال قوياً، لكن فابيوس كان يعرف إن كل لحظة تمر تخلق واقعاً جديداً مختلفاً عما قبله. فإن كان هانيبال قوياً منتصراً الآن فستأتي لحظة ضعفه لا محالة. وكان فابيوس على حق. واستطاع اقتناص لحظة الضعف وأنقذ روما من خطر هانيبال. أنا أحب الانتظار. اللحظة المناسبة ستأتي دوماً. والتحولات تحدث ببطء. حتى إننا أحياناً نغفلها ولا نلحظها. التحولات الحادة السريعة قليلة جداً في التاريخ. وبالتأكيد لست عاتباً على بلادي. أنا مجرد ابن من أبنائها ضاقت به كما ضاقت بملايين غيري. لكنها ستتسع لنا يوماً ما. سيأتي ذلك اليوم. الصحافة الثقافية: * عملت في الصحافة من خلال ملفات ثقافية كنت تديرها من خلال عمل متواصل ومختلف.. بعد طول تلك التجربة كيف وجدت الثقافة المقدمة من خلال الصحف هل هي عاكسة ومؤثرة وناحتة للفكر والاختلاف؟ وهل الصحافة حرفة قاتلة للمبدع؟ * الثقافة الصحفية ثقافة خفيفة بطبيعة الصحف وقارئ الصحف. هذا أمر طبيعي وليس عيباً. من الصعب أن تقدم مادة شديدة التعقيد في مقال صحفي، هناك كتب ودوريات ثقافية لهذا. لكن هذه الخفة مفيدة أيضاً. تبسيط الثقافة وتقديمها للقارئ العجول أمر مهم ومؤثر. كل غرس ثقافي وجمالي له فائدة. قد يكون ذلك ثقيلاً على المبدع، فالصحافة تستهلك الوقت. لكنها أقرب المهن إلى الكتابة الإبداعية. بل هي إحدى صنوف الكتابة الإبداعية. يمكن للمبدع أن يزاوج بينها وبين العمل الروائي بسهولة. رواية جابرييل ماركيز "قصة بحار تحطمت سفينته" هي تحقيق صحفي مطول. المفاجأة الكاملة: * لم يتوقع أحد من المتابعين لجائزة نجيب محفوظ لعام 2014 م أن من سيخطف تلك الجائزة هو "حمور زيادة" من خلال روايته شوق الدرويش والتي كتب عنها البعض قبل اعلان النتيجة، فيما استبعدها البعض.. ماذا تفعل بك المفاجأت التي تثير حولك الآراء وربما الغيرة أحيانا أخرى؟ وبرأيك لو لم تفز رواية "شوق الدرويش" بهذه الجائزة ماهي الرواية التي تستحق أن تتصدر الجائزة بدلا عنها؟ * كان الفوز بجائزة نجيب محفوظ مفاجأة كاملة لي. فأنا لم أتقدم للجائزة، وقدم ناشري الراوية لجائزة البوكر العربية، لكن لجنة جائزة نجيب محفوظ بالجامعة الأمريكية اختارت روايتي من خارج الروايات المتقدمة للجائزة. كان هذا أمراً سعيداً بالنسبة لي. هناك روايات ممتازة كانت على قائمة الجائزة، لا أعرفها كلها بالتأكيد لكني أعرف مجموعة منها، وأظن ان كثيرا منها كان يستحق الجائزة، مثل رواية الياس لأحمد عبداللطيف، أو رواية باب الليل لوحيد طويلة. ذكاء المرأة: * كتبت (كيد النساء لا علاج له، والمرأة التي لا قلب لها عقرب سام) هل لدغتك العقارب يوما ما يا حمور؟ وماذا عن المرأة التي لا عقل لها كيف تصنفها؟ * ومن منا لم تلدغه العقارب؟ لكن ما يُكتب في الروايات ليس تجارب الكاتب أو رؤيته الخاصة إنما الرؤية الفنية التي يفرضها السياق الروائي. أما أنا فأحب المرأة ذات العقل. هذا أول شيء يجذبني إليها. الذكاء وقوة الشخصية. رغم انها صفات ليست محبوبة في المجتمعات الشرقية. لكني لا أنجذب لتلك الأنثى الخاضعة، إنما ذات العقل والمعرفة، وربما طويلة اللسان أيضاً. امرأة الحب: * أظن دوما بأنه يصعب علينا تذوق طعم المطر وتنفس الغيوم إذا لم يكن في حياتنا "حب" وبأن العصافير صباحا لا تنقر نوافذ من يعيش جائعا وحيدا دون "حب".. وماذا عن عصافيرك يا "حمور" هل تقف عند نوافذك لأن عشقا يسكن روحك؟ أم أنه لم يعد في نوافذك مكان للطيور؟ * لا أستطيع أن اعيش دون حب، ولا أقدر أن أقطع ميلاً واحداً دون امرأة إلى جواري. إذا ابتعدت تضيق الدنيا، وتصبح المشاوير ثقيلة. الهروب من الواقع: * في ظل الظروف السياسية التي تعيشها الدول العربية في الوقت الراهن.. هل يمكن أن نجزم بأن لتلك الظروف السياسية تأثير بالغ على الثقافة والكتابة والأدب؟ وما هو الاقرب في ظنك للجمهور.. الكتابة عن السياسة؟ أم الكتابة عن الأدب والانسان؟ * المزاج العام يتغير. هناك لحظات تصبح الكتابة السياسية هي الأحب للجماهير. وفي لحظة أخرى تصبح بعض أنواع الأدب أحب من غيرها. هذا مرتبط بالحالة العامة التي إلى حد ما تحددها السياسة. اظن ان المزاج العام منذ 2011 حتى 2014 كان ميالاً إلى السياسة. ثم لأسباب كثيرة استثقلتها القلوب. فانقلب الناس إلى الأدب. كثير من الشباب هرب إلى أدب الرعب. أصبح له رواج ظاهر. وبدأت الرواية التاريخية تجذب اهتماماً. لعله هروب من الواقع. وربما هو مزاج له أسباب مختلفة. بعد الموت: * كتبت في الكونج (بقدر ما يبغضك الناس في حياتك سيظهرون حبك بعد موتك ).. من الذي سيحبك بعد موتك يا "زيادة"؟ وماذا تفعل مع من كرهك في حياتك؟ * أحاول ألا أشغل نفسي بمن يكرهني في الحياة. من الطبيعي أن يحبك أناس، وأن يبغضك آخرون. ماذا تفعل في هذا؟ هذه هي الحياة ببساطة. لم أفكر في من يحبني بعد موتي. ربما يهمني أن يحب الناس كتابتي بعد موتي. أما أنا، فحينها سأكون في مكان آخر لا يهمني الحب أو الكره. التصوف: * في رواياتك يبدو واضحا جدا بأن لديك ميلا كبيرا للحديث عن الايمان والمعصية وعلاقة المرء بالله – سبحانه جل في علاه – وبأمور روحانية عديدة.. فهل يمكن لنا أن نصنف قلمك بأنه يميل للتصوف؟ أم أنك الكاتب المتحرر بصبغة دينية؟ * لست ميالاً للتصوف، لكن من الصعب أن تكتب عن السودان دون تصوف. كما إن التصوف – أدبياً – مغري وغني جداً. هو عالم كامل مع الواقعية السحرية، ومن مجاهدة النفس. هذا أمر يعجبني أن أكتب عنه. لكني لست متصوفاً. الطفل الأمدرماني: * ماذا بقي من الطفل "حمور زيادة" الذي عاش في أم درمان؟ * أحاول – ما استطعت – أن أظل ذلك الطفل. أكتب بروح وحس الطفل. بالرغبة في ابداع عمل فني جميل يسعد الطفل بداخلي. أتعامل مع الإبداع بذات طريقة الطفل الصغير الأمدرماني الذي كان يحاول الرسم والكتابة قبل أن يدخل المدرسة. اللون الاسود: * ما لون قلبك.. أسود أو أبيض؟ ومتى يصبح لا لون له؟ * أنا رجل أسود، لذلك أعتبر اللون الأسود لوناً جميلاً ولوناً للخير، بعكس الثقافة البيضاء المسيطرة على العالم. لذلك لو أخترت أن أكون طيباً فسأقول إن قلبي شديد السواد. هذا مدح للقلب. عموماً لا أقدر أن أصف قلبي. أنا مشغول بأن أسعده عن توصيفه. البكاء: * ما هو الخيار الذي اخترته في حياتك والذي ابكاك طويلا؟ وإلى أين أوصلك ذلك الحزن اليوم؟ * خيارات كثيرة كانت محزنة. وبعضها أبكاني. لكنها خيارات خاصة، لا شيء منها يمكن مشاركته، الآن على الأقل. المرأة المختبئة: * أمامك باب يفصلك عن أحد ما.. من هو الشخص الذي ترغب أن يكون واقفا خلفه ينتظرك؟ * لعلها تعرف نفسها إن قرأت هذا الحوار، دون أن أسميها. حمور زيادة في مشاركة للحديث عن الرواية