الحديث إلى الروائي الجزائري رشيد بوجدرة مغامرة، يجب على محاوره أن يلم بكل أعماله وحتى بمزاجه. فقد تجلس إلى بوجدرة ساعات ولا يمكن أن تخرج بحوار معه يرقى للنشر وقد تخطف اهتمامه من الوهلة الأولى ويبدي الاستعداد على إخراج كل ما يختزن في ذاكرته. فتارة يسرد وقائع بالفرنسية وتارة أخرى يتوه في لغة الضاد مثلما تاه فيها وهو يقدم جماليات راقية ومتميزة في الرواية العربية. حين بدأ في كتابة الرواية، اختار رشيد بوجدرة لغة ديكارت وفولتير، فسطع نجمه مع صدور أول رواية له بالفرنسية واستمر بنشر رواياته الست باللغة الفرنسية. إلا أنه كان يشعر بغربة القلم و أنه مثل الغجري التائه. وأنه لم يبلغ ما يريده في كتابة الرواية بالفرنسية، فأبى إلا أن يعود إلى أحضان دفء لغة الضاد وهو في أوج شهرته وتميزه، فولج عالم كتابة الرواية بالعربية دون حدود. فكتب للمرأة لتقول ذاتها وفكرها وسلب السياسة سطوتها فكشف ما تسترت عليه وحقق في أباطيل ذكرت في التاريخ العربي وراح يسرد في روائعه بتقنية جديدة عالية بنوع من التشابه في كتابات فولكنر وجاك لندن ونيكوس كازنتزاكي وغيرهم من العمالقة. في هذا الحوار المطول، تحدث بوجدرة عن أدونيس ونزار قباني، ووصف حبه «لنجمة» كاتب ياسين بعنفوان كبير كما تحدث عن أعماله الأدبية. لنبدأ من النهاية، ما رأيك في قائمة جائزة البوكر العربية التي اختارت أسماءها مؤخرا وهل استطاعت هذه الجائزة أن تنصف كبار الكتاب والروائيين؟ بصراحة أنا أرى أن كل الجوائز الدولية التي تمنح هي سياسية. ولا تعطى إلا لأصحاب الأصحاب من البوكر العربي إلى جوائز عالمية أخرى مثل جائزة نوبل للأدب التي كنت مصنفا فيها رفقة بعض الروائيين أمثال محمد ديب. كنت مصنفا في قائمة نوبل للأدب لمدة عشر سنوات ولم أنل منها نصيبا وكذلك محمد ديب وآسيا جبار وأدونيس ولكنني أعتقد أن هذه الجائزة محسوم أمرها.فهي شيء «وهمي» بالنسبة للعرب. ولا تمنح لأدباء عرب إن لم يرض عنهم الغرب المدافع وحليف اللوبي الصهيوني الموسع. ثم إن الترشيح سواء للبوكر العربي أو لنوبل العالمي للأدب ليس الكاتب هو من يرشح نفسه ولكن الناشر هو الذي يرشح الكاتب وقد رشحني لجائزة نوبل الناشر وإلا ما كنت فعلت. وبعدها حذف اسمي منذ سنوات لمواقفي حيال الصهيونية ونفس الشيء بالنسبة لمحمد ديب الذي رشح لها ولم ينلها. وكذلك أدونيس مؤخرا وآسيا جبار.. جائزة نوبل للأدب لا تعطى لعربي إلا إذا كان قد زكي من قبل اللوبي الصهيوني. تقول إن نوبل للأدب شيء «وهمي» بالنسبة للعرب، لكن سبق أن فاز بها نجيب محفوظ. نعم.. تحصل عليها لأسباب سياسية واضحة. كان متفقا تماما مع اتفاقية كامب ديفيد وزكاها. فقد بعث برسالة طويلة وعريضة إلى الرئيس السادات يهنئه فيها بالإنجاز «العظيم» الذي حققه وبعدها بسنة تحصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل للأدب. ولا أعتقد أنه سيحصل عليها عربي آخر إلا إذا كان سلسا مع الصهيونية. من لم ينخرط في منظومتهم الثقافية والأدبية ويرضى بالانضواء تحت عباءة اللوبي اليهودي لن يوضع في قائمة المتوجين ولن ترضى عنه لجنة الجائزة. فأدونيس كان مرشحا لها وكان على بعد أمتار منها وحذف لأنه لم يؤيد الثورة السورية وساند بشار الأسد. أنت من المعجبين بالشاعر أدونيس.. ودافعت عنه عندما تعرض لبعض الهجوم الذي لقيه أثناء كلامه عن نزار قباني. نعم.. تبهرني نصوص أدونيس الشعرية.. أرى نزار قباني في واد وأدونيس في واد آخر.. ومن يقارن نزار بأدونيس لم يقرأ لأدونيس، فأدونيس شاعر رهيب. وهو أكبر شاعر عرفه القرن العشرين. أعتقد أن أدونيس لا يمكن أن يقارن بنزار قباني. نزار هو تلميذ في مدرسة أدونيس. أنا أحب أشعار نزار قباني خاصة عندما تغنى قصائده. فهو شاعر بسيط أي شاعر جماهيري وشاعر المرأة لكن أدونيس شاعر فلسفي وشاعر متصوف وأشعاره دقيقة وعميقة. ولا مجال لمقارنة أدونيس بنزار قباني ورأيي أقوله بصوت عال. أتعتقد أن أدونيس كسب صيت نزار وشهرته في انتشار قصائده سواء السياسية أو العاطفية؟ كأنك تقولين لي إنه يجب المساواة بين تلميذين في الصف، أحدهما حصل على علامة كاملة والآخر حصل على نصف العلامة. أدونيس أكبر من شاعر جماهير. لأن شعره دقيق ورهيب وصعب المنال. دمج في نصوصه العلاقة بين الشعر والتصوف دمجا متكاملا. فالشعر عند أدونيس نوع من المعادلة التي يبحث فيها عن حل المتناقضات المشبوهة، وذلك من خلال التجاوز والإفلات من القيود العادية والسائدة إلى المطلق واللامحدود. إلى الميتافيزيقا. لكن أدونيس لم يرتد -برأي النقاد- من الصوفية إلا قشورها، واقتبس بعض شطحاتها، واستعار بعض مصطلحاتها، أبدا لم يصل إلى جوهرها الذي قامت وتقوم عليه؟ نصوص أدونيس هي تجليات صوفية مترنحة بين رونق الوصف وبراعة التوصيف في لغة صوفية، ترفض الفكر السائد وتتمرد على الرموز، تتمرد على المنطق. أدونيس شاعر يرتدي ثوب المفكر وليس ثوب المتصوف المتدين وهو ليس منظرا دينيا أو عقلانيا، إنما هو شاعر يدمج العلاقة بين الشعر والتصوف دمجا متكاملا. كل شاعر بطبيعته طائر حر، يغرد متى شاء وكيف ما شاء ولا يسجنه قفص النظريات ولا المسلمات ولا يحكمه منطق. نصوص أدونيس تنتصر لفكر يتجاوز العقلانية والشك ويطرح أفكارا جديدة ترفض المنطق وتقوض سلطة العقل والواقع. إذن أنت ترى أن نصوصه جاءت لتعيد النظر في فهمنا «الدوغمائي» لبعض الثوابت وتظن أن نصوصه تجاوزت تلك الثوابت؟ نعم، نعم هو معجب بشخصية ابن عربي وجرأته في تناول الأفكار التي تتناول مثلا مواضيع في الدين وخاصة في ما يتعلق بالجزاء والثواب.. ومن خلال نصوصه الشعرية يتضح أن التصوف قائم على ما هو ميتافيزيقي وما هو ظاهر. لذلك أقول إن الكثير من المثقفين العرب لم يقرأوا لأدونيس، وإن قرأوا لم يفهموا نصوصه العميقة الفهم الصحيح. كما لو أنهم يقولون أنهم قرأوا «نجمة» لكاتب ياسين وفهموها. على ذكر كاتب ياسين، كأنك تؤيد مقولته أن هناك مليون شخص استمتعوا بمسرحية «خذ حقيبتك» التي اشتهرت آ نذاك، في حين لم يتمكن من قراءة «نجمة» سوى قلة قليلة من النخبة. أجل.. «نجمة» هي في حد ذاتها رواية تستعصي على قارئها..عندما صدرت في الخمسينيات، نالت الحظ الأوفر من النقد لأنها جاءت بطريقة جديدة في السرد المتواتر، وغردت خارج السرب بأسلوب جديد، فأخذت النصيب الأكبر عند النقاد الفرنسيين الذين اعترفوا أنها «طفرة» جديدة في الأدب الروائي الذي زج بالنمط الروائي الأوروبي في حرج وحيرة.. فالقراء أصبحوا أمام نوع جديد يستعصي عليهم فهمه. قلت في بدايات شبابك إنك ستكون كاتب ياسين آخر أو لا تكون. هل وفقت في كتابة «نجمة» أخرى مثل «نجمة» كاتب ياسين؟ فعلا كنت طفلا في الثالثة عشرة من عمري، وكنت متقدما جدا في المطالعة على الروايات الكلاسيكية المعروفة آنذاك. قرأت لفولكنر وجاك لندن، ونيكوس كازنتزاكي وقرأت الرواية العربية، فاطلعت على روايات نجيب محفوظ وكاتب ياسين وأعدت قراءة رواية «نجمة» عدة مرات وفي كل مرة كنت استمتع بتلك الرواية التي حمل نصها «الممزق» جماليات قل نظيرها. وعلينا أن نعترف أن «نجمة» هي «سديم» يمتد منذ السطر الأول إلى نقطة النهاية.. تجعلنا لا نستعجل تقليب الصفحات لنعرف النهاية ولا نستقرئ النتيجة بقدر ما جعلنا كاتب ياسين نفتش بين كل سطر وعند بداية كل فقرة عن تلك الحلقة الضائعة بين طيات «نجمة». فالتسلسل العلاقاتي غائب في «نجمة». غائب بحيث نجد الفقرة الثانية مقدمة للأولى والثانية نتيجة للأولى ومقدمة للثالثة وهكذا. هي «نجمة» رهيبة صدحت شهرتها في العالم بأسره وهي «نجمة» تسطع في عالم الرواية العالمية. لا أحد يمكن أن يكتب «نجمة» أخرى مثل «نجمة» ياسين.. وأنا قلت سأكتب مثل كاتب ياسين ولكن هل وصلت لهذا؟ لا يمكنني أن أجزم بذلك ولكن يلازمني ذلك الشعور لأن كاتب ياسين تحفة روائية نادرة في عالم الرواية.. سؤالك إن كنت وصلت لذلك.. فأعتقد أنه يوجه للنقاد والقراء. قلت إن التسلسل غائب في رواية «نجمة».. أتعني أن البناء السردي الذي تتمتع به الرواية مفقود في «نجمة»؟ هذا صحيح. في أجزاء من الرواية، استغنى كاتب ياسين عن البناء السردي. الكاتب ملك خيارات ووظفها بذكاء وعن دراية، فهو لم يعبث بذلك التسلسل. بل كان مقصودا.. لقد تعامل في الرواية تعاملا خاصا في البناء، فوظف تقنية جديدة وفق سياق خاص. التقنيات التي تضمنتها رواية «نجمة» فائقة البراعة ومسترسلة في النص بحيث في كل مرة تكتشف جديدا. «الإراثة»، «التفكك»، «معركة الزقاق»، « الإنكار» «تيميمون»، «ألف عام وعام من الحنين»، «الجنازة»، «فوضى الأشياء»، «شجرة الصبار»، «الحلزون العنيد». والمجموعة الشعرية المجتزءات الخمس للصحراء.. وغيرها هي محصلة خمسين عاما من الإبداع.. تناولت فيها مواضيع شتى من قبيل الهوية ومراياها ومن قبيل حرية الكلمة وسلطتها.. ومن قبيل السياسة وضجرها. هل تعتقد أن بوجدرة نال حظه من التاريخ بهذه الأعمال الأدبية؟ لا طبعا.. لست في مستوى تقييم أعمالي.. أترك ذلك للنقاد وللتاريخ، والتاريخ هو الذي سيحكم. عندما نعود للرواية الغربية في القرن 19 سواء الروسية أو الفرنسية أو الألمانية نجد أنها كانت حافلة بمئات الأسماء، ولكن كأن عملية غربلة حدثت واحتفظ التاريخ بأسماء قلة. فالرواية الفرنسية احتفظت بأسماء يعدون على أصابع اليد كبلزاك وإيميل زولا، جوستاف فلوبير وكذلك بالنسبة للأدب الروسي مثل فيدور دوستويفسكي وآخرين. قناعتي أنني أكتب للنخبة وليس لجمهور ما ونصوصي -سواء كانت بالفرنسية أو بالعربية- لا يمكن أن تكون في متناول أي جمهور. لقد فهمت من خلال التجربة أن الكاتب لا تصنعه المبيعات ولا دور النشر ولكن يصنعه النص الذي يكتبه ومدى صدقيته ووصوله للقارئ. مبيعاتي ليست مرتفعة جدا لكن عندي مقروئية لا بأس بها. وقد أدركت أن هناك من النخبة العربية من يدخلون عالم بوجدرة الروائي ويفككون لغة بوجدرة وبنية الرواية عند بوجدرة، ورمزية النص عند بوجدرة. وأعترف لك أنني اكتشفت أن القارئ العادي متمكن من الرواية أحسن من النقاد ويتقن تقنياتها ويفك رموزها. روايتا «فوضى الأشياء» و«الإنكار» فتحتا لك الطريق إلى الشهرة وأسست لموجة جديدة من الأدب الروائي المشبع بالسياسة، أيهما الأقرب إلى «الثورة» التي كانت بداخلك؟ «فوضى الأشياء» هي أعمق وأهم وأفصحت عن تمرد لما هو سائد في ثورة تسمي الأحداث والأشياء بمسمياتها. نحن العرب اشتكينا ونشتكي من الاستعمار سواء لفترات قصيرة أو فترات طويلة ولكن لم نفكر أبدا أننا سبقنا في ذلك. فقد استعمرنا شعوبا وبلدانا وحضارات. استعمرنا الأندلس وصقلية وعذبنا البشر وأوجدنا الرق والعبيد. نحن العرب فعلنا ذلك. ولكننا لم نجرؤ على أن نقول ذلك ونبوح به. ولكنني قلته في هذه الرواية قلت: يا مثقف.. يا عربي.. يا صاحب الضمير العربي.. صحيح أننا استعمرنا ولكننا نحن من بدأ باستعمار الآخر. ونحن من خلقنا الرق والعبودية. هل كانت تلك المنمنمة التي يظهر فيها طارق بن زياد محركا أساسيا للسرد الروائي الذي اعتمدته، سببا في نجاح «فوضى الأشياء»؟ نعم نجحت «فوضى الأشياء» كثيرا وأصبحت رمزا روائيا وخاصة أنني انطلقت من النص «الخلدوني» الذي كان فيه ابن خلدون منصفا وموضوعيا، حيث كان يحكي فيه كيف فتح البربر والعرب الأندلس.. وكان الجيش متكونا من ثلاثة آلاف بربري وأقل من ألفي عربي. لقد أخذت من النص الخلدوني الموضوعية التاريخية، فنص ابن خلدون لا يمكن أن نجد فيه كذبا أو مزايدة. كما أننا نستشعر من النص أن ابن خلدون، كان المؤرخ والاستراتيجي وعالم النفس. دعيني أضرب لك مثلا، ذكرته في هذه الرواية: أن أمرا جاء من موسى بن نصير الذي كان رئيس أركان الجيش، أمر من خلاله طارق بن زياد «البربري» الذي لم يتقن العربية بعد، أن يفتح الأندلس، وعندما توجه طارق بن زياد إلى الأندلس وفتحها، بلغ الخبر إلى موسى بن نصير. فلم يستسغ الأمر، بعدها وقع اختلاف بين طارق وموسى والذي هو نوع من الغيرة. فيقول ابن خلدون في نصه «ولما علم موسى بانتصار طارق حركته الغيرة». أنا أعتبر أن هذا نوع من التحليل النفسي رغم أن فرويد لم يكن موجودا ليحلل له شخصية موسى بن نصير. وهذا يدل على أن ابن خلدون كان عالما نفسيا رهيبا. تشعب السرد حد «التتويه» في رواية «معركة الزقاق» لحد أنه اعتبر «معركة ضد المتاهة».. هل هو تأسيس مغاير للنصوص السردية ضمن إطار حداثي؟ لما قرأت المقدمة لابن خلدون، أردت أن أستشهد ببعض ما جاء فيها، فكتبت «معركة الزقاق».. ومن خلال التناص، فقد استشهدت في الرواية من خلال عشر صفحات من نص ابن خلدون محض.. ففي النص السردي يمكن توظيف جماليات تخلخل النص التقليدي وتتلاعب في تشكيله وبالتالي تدفع بالقارئ ليكون فطنا في تتبع النص.. وهذا ما حدث في «معركة الزقاق». «الإنكار» أو الرواية المعروفة ب«التطليق» افصحت عن عهد جديد للأعمال الروائية التي تنزع لبوس المنحى الطبيعي للخطاب الأدبي؟ الكتابة بالعربية تمنحني الكثير من الحرية ثم إن هذا النوع من الأعمال الأدبية يعطى صورة جديدة للكتابة الادبية عموما، سواء تعلق بالسرد أو الشعر وهو بداية لظهور أسلوب جديد في الكتابة وصياغتها بحيث خرجت عن المألوف من النصوص التي تسجن داخل الحيز الطبيعي الذي لا يترك الخيار في «الفلتات» اللغوية وانسيابيتها. لقد حملت فكرا إيديولوجيا غير الكثير في الرواية الجزائرية والعربية ونقلها نقلة نوعية، وكشف عن جماليات السّرد العربي المختلف الذي يحفر في أعماق الذات العربية بحرّية غير مسبوقة وبعيدا عن القراءة الإيديولوجية. العربية تتقنها حد «الانتشاء» وتقول بيني وبين العربية علاقة عشقية.. هل كان للمدرسة الصادقية دور في تشكيل بوجدرة لغويا؟ صدقت.. فقد شكلتني مدرسة الصادقية تماما ولم تشكلني أي مدرسة أخرى رغم الشهادات العليا التي حصلت عليها.. الصادقية كانت مدرسة رهيبة خلال سبع سنوات وبعد مناظرة صعبة على مستوى المغرب العربي، استطعت أن أدخلها، فهي مدرسة فرنسية، أصلها عثمانية، كانت تكون طلبة البكالوريوس الذين يوجهون إلى المدارس العسكرية. ولما استعمرت فرنساتونس، تركت المدرسة على نفس النظام العثماني الذي كانت عليه. ومن بين ما ترك، التدريس باللغة العربية. وكانت الرياضيات إجبارية، وكذلك تدرس الفقه على يد عميد الزيتونة. درست على يد عميد الزيتونة وقرأت نصوصا لابن برد وابن عربي وابن رشد. مالك حداد يقول «اللغة الفرنسية سجني ومنفاي» هل راودك نفس شعور مالك حداد حيال الكتابة بلغة فولتير والحنين إلى الكتابة باللغة العربية؟ سأجيب على سؤالك بما قاله محمد ديب عندما أجاب على سؤال مماثل. لقد قال «كل كلمة تكتبها بلغة غيرك تشبه رصاصة تطلقها على نفسك، وبالتالي على قيمك وقيمتك. فما معنى وما جدوى العالمية إذا كنا بلا جذور».. عودتي للكتابة باللغة العربية مكنتني من الرقص على سلم درجاتها والعزف على معجمها الثري المتنوع وهنا تتطابق لغة الفكر مع لغة الكتابة ويذوب الاغتراب. أعترف لك أن اللغة الفرنسية قاصرة في نقل الأفكار والتعبير عنها.. فعلاقتي باللغة هي علاقة تصوف وحب. لا يمكن أن تكتب الرواية العربية بغير العربية ولا يوجد مستقبل للرواية العربية باللغة الفرنسية لأن الكاتب وكأنه يلبس جلدا غير جلده فيصاب بالحساسية. «من أجل إغلاق نوافذ الحلم».. أنت لم تترك للحلم نافذة ؟ يضحك.. هي مجموعة شعرية صدرت في بداياتي، حاولت بطريقة شعرية أن أعبر عن استيائي لما آل إليه الانتصار التاريخي لثورة التحرير المجيدة. فكتبت المجموعة الشعرية من أجل «إغلاق نوافذ الحلم». ولما ارجع إلى هذه المجموعة الشعرية البسيطة المتعثرة لأنها كانت البداية، أجد فيها تفاصيل ما نعيشه اليوم من خيبات وانكسارات. من هزائم ودسائس.. لكن أعود وأقول إن الحلم قائم ومستمر. لماذا أخذت رواية (Repuliation) عنوانين بالعربية عندما ترجمت؟ هذه الرواية ترجمت في البداية من قبل أستاذي الذي درسني في تونس اللغة العربية وهو محمد جرمادي وقد ترجمها إلى «التطليق».. بعدها اتضح أن الترجمة لم تف الرواية حقها فأعيدت ترجمتها وتغير عنوانها من «التطليق» ليصبح «الإنكار» وهي الترجمة الصحيحة للكلمة الفرنسية. الشخصية التي تدور حولها رواية «الإنكار» هي نفسها الشخصية التي تعود وتتكرر في كل مرة في رواياتك؟ نعم هي نفسها.. نفس الشخصية.. وهي أمي. أمي علمتني الحنان والحب والعطاء. ومن خلال حبي لأمي أحترم المرأة وأحبها.. ومحاط بالإناث كانت أمي ثم زوجتي وابنتي وحفيدتي. لذلك تعود وتتكرر شخصية الأنثى بهذا الشكل في نصوصي. ما علاقة «المجتزءات الخمس للصحراء» برواية تيميمون.. وكيف كانت ولادة كل منهما؟ لا لا توجد علاقة ولكن هناك نص في تيميمون حول الصحراء. أما «المجتزءات» بالنسبة لي فهي التصوف الكامل والمطلق الذي عشته في الصحراء. فعندما تكون وحيدا وتكتشف هذا الكون والعالم لا يمكن إلا أن تصف ذلك الجمال وتخلص له ولن يتأتى ذلك إلا في قالب شعري. في عمق كل كاتب مبدع، جمالية تصنع جرأته حينا وترسم إبداعه حينا آخر. في عمق رشيد بوجدرة شيء من هذا المكنون لا يمكن أن يكون سعادة ولا يمكن أن يكون فرحا. فماذا يكون؟ لا يصنع الكاتب المبدع الناجح إلا الألم. وأنا لا أؤمن بالحياة الوردية والسعادة لا تصنع النجاح. طبعا في الحياة فيها أوقات فيها نوع من الانتشاء عندما نكون برفقة أصدقاء نتبادل جلسات أدبية أو عندما أكتشف رونق مدينة جديدة. أو عندما أقرأ بشار بن برد أو قراءة القرآن انتشي بها أو ألف ليلة وليلة. الألم أثراني. فأنا إنسان عشت طفولة مؤلمة بكل حيثياتها. اليوم عندما أحكي مع إخوتي عن طفولتنا. أنقل لهم ألم والدتي، فيتأثرون ويقولون كيف سايرت ذلك لوحدك ونحن كنا نعيش معك ولا نرى ما ترى أنت. ربما كان جبنا من أن نختفي وراء الجدران ونحن نرى سطوة أب متغطرس.. أما أنا فقد استحوذ علي الألم وصنع بداخلي الإبداع وصار يفتش في كل زاوية ويجعل منها باحة للبوح وللإبداع. في رواية «التطليق» ذكرت بطلا محمولا في التابوت.. ألم تتوجس من الرقابة ومن التاريخ خاصة أنها كانت في بداية 1970 ؟ نعم البطل المحمول في التابوت هو عبان رمضان.. ذكرته في رواية التطليق لأنه قتل من قبل أصدقائه. عندما اختتم مؤتمر الصومال 1956، رفض بعض ضباط الثورة موقف عبان رمضان الذي نجح في حشد التصويت على نصه، لكن هم رفضوا ذلك. وحكموا عليه بالإعدام بينهم ونصبوا له مكيدة وشنقوه خنقا بعد أن تناولوا معه مأدبة عشاء. ومنذ كنت شابا كنت أعلم بالقصة. وأدرجتها في رواية التطليق التي صدرت بباريس بالفرنسية. لكن القضية كانت من المسكوت عنه وكان محرما الخوض فيها. كيف استطعت أن تخرجها للعلن ولم تخش التبعات؟ أعترف لك أنني إنسان وأنني لست شجاعا ولكن عندي بعض الجرأة والنزاهة، فالإنسان النزيه لا يمكن أن يتحكم في نفسه ولا يخاف لوم «اللئام». وطبعا كان لذلك تبعات، فقد منعت رواية «التطليق» من النشر وبعدها منعت الرواية الثانية «الإراثة» ومنعت الروايات الست الأولى الصادرة بباريس ك«ألف عام من الحنين» و«طبوغرافيا» و«الفائز بالكأس» لمدة عشرين سنة ثم تحررت أعمالي ونشرت بالجزائر.. في رواياتك ملامح مركبة قائمة على التناص والتوليف تنسج خيالا لأبطال خياليين.. كيف توحد في نصوصك مثل هذه الملامح؟ هذا منظوري أنا، أعيشه. ينبع من داخلي.. أعيشه وهو غريزتي. أكتب بلا شعور وبدون تخطيط.. لم أخطط ولم آخذ رؤوس أقلام لرواية من رواياتي. فهي مثل كومة صوف عندما أسحب أول خيط تأتي البقية متسلسلة.. لكن في كل رواية أحمل الفكرة سنوات في ذاكرتي وصلت حد 25 سنة في رواية «التفكك» التي صدرت في 1982. الاطلاع الذي يرافق مسيرة اي كاتب او يحدث في بدايته هو الذي قد يحدد توجهه وطابعه ويؤثر في كتاباته. وما زال ذلك التأثير إلى يومنا هذا يؤثر في ويمكن أنه من خلال تأثري بالرواية الأمريكية لفولكنير والرواية الفرنسية لبروشت وبالرواية الأمريكو باللاتينيى ماركس و مائة عام من العزلة.. ساهم في صنع الطابع الذي اتميز به.. يجب أن تعلمي أن الرواية الجزائرية في قالبها الأساسي لم تخرج من قالب القصة، فهي مربوطة بالقصة وما زالت تحتفظ بنكهة القصة القصيرة. لماذا كتبت «وقائع سنوات الجمر» وهل كنت تتوقع فوزها بالسعفة الذهبية في «كان الدولي»؟ أنا كتبت السيناريو بطلب من المخرج لخضر حمينا صاحب الفكرة ولأنه عاشها. فعرض علي القصة وكتبتها بالاشتراك معه. كنت كاتب السيناريو والمستشار فني للفيلم وكانت علاقتي بالمخرج لخضر حمينا جيدة وكنا نتناقش على بعض اللقطات وغيرنا بعضها وبصراحة الفضل يعود له في نجاح الفيلم وحصوله على السعفة الذهبية في كان. هل التزم لخضر حمينا بالنص الذي كتبته أم أدخل عليه تعديلات؟ فعلا هو التزم بالنص وأحدث تغييرا في جزئيات بسيطة لم تزعجني وكان يتشاور معي فيها. صور الفيلم عبر التراب الجزائري وفي كل المناطق الجزائرية ولكن أكثر المشاهد كانت بمنطقة وادي ميزاب.. وكان ذلك في سنتي 1973 و1974 والتتويج كان في كان الدولي في سنة 1975. قاطعت معرض باريس سنة 2008، لاستضافة إسرائيل. ونعلم أن أكبر مبيعاتك في باريس. ألم تخش من مقاطعة اللوبي اليهودي الذي يتحكم في أكبر دور النشر وفي المبيعات في أوروبا.؟ ولا يزال هذا اللوبي يتحكم في دور النشر وفي المبيعات لحد اليوم، لكن صراحة لم ألاحظ أن مقاطعتي لمعرض باريس أثرت على مبيعات عناويني.. فعلا خشيت ذلك لكن صراحة لم تتراجع مبيعاتي أبدا. ماذا عن روايتك «صقيع الربيع « التي ستصدر قريبا بباريس؟ لا.. هذه الرواية الجديدة غير عنوانها وأصبح «ربيع» وستصدر بباريس في شهر مارس. في هذه الرواية ذكرت جملتين قصيرتين حول هنري برنارد ليفي «دون أن أذكر اسمه» وذكرت كيف أنه كان يتفاخر وهو «المثقف»، بأنه حمل السلاح الثقيل في طائرته الخاصة وذهب ليشارك في الحرب في ليبيا. وجاء هذا في سياق روائي دون أن أشير له صراحة لكن ضمنيا كنت أشير له بعيدا عن السياق السياسي أو التاريخي. فجاءني صاحب منشورات غراسيه (Editions Grasset) وقال لي إنه واضح أنك تتحدث عن برنارد ليفي وحتى لا يشعر بأنه المعني بالسياق يجب أن نحدث تغييرا طفيفا حتى لا نجرح مشاعره. «الرجل قتل آلاف الناس وهم يريدون الحفاظ على شعوره. « أحدثوا تعديلا طفيفا لتلطيف القدح الذي وقع عليه. لكن صراحة المطلع يدرك جيدا أنه هو المقصود حتى لو أضافوا ألف كلمة. وفضلت أن أنقل «الربيع» الذي جاء به الغرب.. ماذا غير هذا الربيع لشاب يريد عملا ومدخولا.. كانت انتفاضة نار، فحولوها إلى ثورة ياسمين وربيع، أي ربيع هذا الذي يتغنون به.. هل ضمن ربيعهم الخبز للشعب وكفاهم شر الفوضى العرمرم؟ ما أحب رواية لقلبك من بين رواياتك؟ والله صعب أن أختار بين تلك العناوين ولكن تقنيا والتي نالت نجاحا غريبا وباهرا وبإجماع النقاد العالميين هي «طوبوغرافية نموذجية لعدوان موصوف» التي صدرت في 1975 عن دار دانوال بباريس.. وتزامن صدورها مع التتويج لفيلم لخضر حمينا «وقائع سنوات الجمر». كرمت وحصلت على العديد من الجوائز إلا في فرنسا رغم أنك ساهمت بكثير من البراعة في إحياء اللغة الفرنسية نعم كرمت في عديد الدول إلا في فرنسا، رغم أن أكبر مقروئية عندي هي في فرنسا وساهمت في انقاذ اللغة الفرنسية وإحيائها لدرجة أن إحدى أكبر الجرائد وهي جريدة لوموند قاطعت الكتابة عن رواياتي ونشر جديدها عندما عدت للكتابة بالعربية.