ابني الصغير سألني قبل فترة بسيطة: بابا إيش يعني الوعي!؟.. وللوهلة الأولى اعتقدت أنني أعرف الجواب ولكنني سرعان ما اكتشفت حيرتي في تفسير مفهومنا للوعي وكيفية إدراكنا للأشياء!! - فهل وعينا مثلا قاصرا على حواسنا الخمس!؟ .. إن كان الجواب (نعم) فكيف نشعر إذاً بمظاهر نفسية خارقة كالحدس والتخاطر والحلم بالمستقبل! - وهل عدم وعينا بشيء ما يعني عدم وجوده حولنا!؟ .. إن كان الجواب (نعم) فكيف نفسر وجود الجن وموجات الأثير والأصوات التي لا نسمعها!! وهل يختلف وعينا أثناء اليقظة عنه أثناء النوم!؟ .. إن كان الجواب (لا) فكيف نرى في احلامنا أماكن بعيدة وأحداثاً لم تقع بعد ونعجز عن ذلك أثناء اليقظة!! وأخيرا (وليس آخرا) هل الوعي حكر على الانسان أم أن النباتات والجمادات تملك بدورها وعيا من نوع مختلف!؟ .. إن كان الجواب (لا) فكيف تدرك الحيوانات وجودها وكيف تسبح النباتات والجمادات بحمد الله {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} !! .. هذه التساؤلات جعلتني في حالة صمت أمام هذا (السؤال الطفولي). وحينها فقط تذكرت امتلاكي لكتاب يناقش موضوعا كهذا - اشتريته قبل فترة طويلة ولم أقرأه كاملا حتى الآن. وهو من تأليف باحث نفسي مشهور يدعى بيرسي سايمور ويدعى «المستوى الثالث للحقيقة» (واسمه الأصلي: The Third level of Reality, Percy Seymour)! والكتاب باختصار شديد يدعي أن البشر يملكون ثلاثة مستويات من الوعي: ٭ المستوى الأول: هو إدراكنا للحقائق الموجودة حولنا من خلال حواسنا الخمس؛ فنحن نعي الأشياء حولنا لأننا ببساطة نراها ونسمعها ونشمها ونلمسها.. ولكن؛ رغم أهمية هذه الحواس إلا أنها تظل محدودة (كونها لاتدرك سوى قدر محدود من المؤثرات) وضعيفة (بحيث لاتُقارن بحواس الحيوانات مثلا) وعرضة للخداع (بسبب مواقف كثيرة تختلف بين فرد وآخر)!! ٭ أما المستوى الثاني من الوعي فهو استجابة البشر وكافة المخلوقات لمجال الأرض المغناطيسي؛ فهذا المجال لايساعد فقط الطيور والاسماك على معرفة طريقها؛ بل ويمنحنا أبعادا نفسية غامضة مثل التخاطر والحدس والإلهام - ناهيك عن الاحساس بالاتجاه الصحيح والتواجد بأماكن لم نزرها من قبل!! ٭ أما المستوى الثالث فهو وجود امتداد فيزيائي خفي ينطلق من اجسادنا إلى أماكن بعيدة - تقتحم حواجز الزمان والمكان - بحيث ندرك ما يحدث (هناك).. وهذا الامتداد يعرف في معظم الثقافات باسم الروح (حسب رأي الكاتب) وقد ينطلق من الانسان أثناء النوم أو التأمل فيرى احداثاً ومواقع تبعد عنه مسافات شاسعة. وهذا الامتداد لايسافر فقط بطريقة لحظية بل ويستطيع اختراق المستقبل والرجوع للماضي بحيث نشعر فجأة - خصوصا أثناء الحلم - بأحداث وقعت أو ستقع لاحقا.. (وهذا الرأي بالمناسبة لا يختلف عما أورده ابن القيم الجوزية في كتابه الروح)!! على أي حال أعتقد شخصيا أن هناك نوعاً رابعاً من الوعي يمكن تسميته ب(الإحساس المنطقي)؛ فكثير من الأشياء تتجاوز حواس الانسان الخمس ولايمكن إدراكها بأي من المستويات السابقة.. ولكن في المقابل يمكن إدراك حقيقتها والاقتناع بوجودها من خلال التفكير المنطقي واستقراء الأدلة المتوفرة (وهي موهبة لاتوجد في غير البشر). فكما توصل الأعرابي الأمي الى الخالق من خلال الاستقراء المنطقي لمبدأ «البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير» توصل كثير من المفكرين الغربيين الى وجود خالق الكون - ليس إرضاء للكنيسة - ولكن عن قناعة رياضية ونتيجة منطقية لايمكن للأحداث أن تنتظم بدونها!!