منذ شهور كتبت على صفحات هذه الجريدة، مقالاً بعنوان الإصلاح حاجة عربية.. ووضحت فيه أن العالم العربي بكل دوله وشعوبه وبعيداً عن المشاريع الإصلاحية المطروحة من قبل جهات دولية عديدة، ووصل عددها إلى (21 مبادرة) هو بحاجة إلى عملية إصلاح تنبثق من إرادته الذاتية، وتجيب بشكل حضاري على تحدياته ومآزقه.. ولم يعد مجدياً التحجج بوجود مشروعات دولية للإصلاح في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط.. لأن الكثير من النخب العربية تنظر إلى وجود مبادرات دولية على الصعيد، يلزمنا بتأجيل هذا المشروع، والانخراط في مشروع مقاومة التدخلات الأجنبية في مناطقنا ودولنا. بينما القراءة السليمة والواعية لهذه المبادرات، ينبغي أن تدفعنا إلى الإسراع في مشروع الإصلاحات السياسية والثقافية والاقتصادية في العالم العربي ووفق أجندتنا الذاتية، وحتى نتمكن من إفشال كل المخططات التي تستهدف فرض أنماط معينة للإصلاح، أو تسعى إلى التدخل في شؤوننا.. لا يمكننا اليوم ووفق التطورات الكبرى التي تجري في المشهد الإقليمي والدولي والمحلي، وكذلك حجم التحديات التي تواجهنا، من الوقوف سلبيين أمام حاجتنا الملحة إلى الإصلاح على الصعد السياسية والثقافية والاقتصادية.. فحاجتنا إلى الإصلاح، نابعة من أوضاعنا وأحوالنا التي تتراجع وتعيش القهقرى، وإصرارنا على أن خيار الإصلاح هو جسر الجميع للخروج من مآزق الراهن، هو بسبب إدراكنا العميق أن التأخر عن الاستجابة الحقيقية لتحديات اللحظة الراهنة ومتطلباتها، سيكلفنا الكثير، وسيدخلنا في ظروف وأوضاع لا تنسجم وتطلعاتنا لواقعنا العربي.. فالإصلاح بالنسبة إلى الشعوب العربية، هو شوق تاريخي عميق ينبغي الاستجابة له، لأنه هو الخيار الذي لا يكلفنا كثيراً. كما أننا كدول وشعوب عربية، لا يمكن أن نواجه تحديات الخارج ومخططاته ومشاريعه ومبادراته، إلا بسحب البساط منه، وسد ثغرات واقعنا الداخلي.. وكل هذا لا يتم إلا بالانخراط في مشروع الإصلاح، الذي يزيل الاحتقانات، وينهي التوترات، ويجيب إجابة فعلية على تحديات المرحلة.. ونود في هذا المقال، الذي نعاود فيه التأكيد على فكرة أن الإصلاح السياسي هو حاجة عربية ضرورية، وليست صدى لمقولات الغرب ومبادراته وأطروحاته.. أن نبلور مجموعة من النقاط التي تنسجم ومقولة الإصلاح في العالم العربي.. وهذه النقاط هي كالتالي: 1 - إن العالم العربي وبكل مؤسساته وهياكله الرسمية والأهلية، لا يمكن أن يواجه ضغوطات الخارج على هذا الصعيد، إلا بإعادة صوغ العلاقة بين مؤسسة الدولة والمجتمع بمختلف تعبيراته وأطيافه.. إذ إننا بحاجة إلى إعادة صوغ هذه العلاقة وفق أسس جديدة، قادرة على خلق مناخات إيجابية سياسية واجتماعية وثقافية، بحيث تتحرك قوى المجتمع وفق مبادرات وأطر لإجهاض كل محاولات التدخل في شؤوننا وأحوالنا.. فالعالم العربي اليوم، أحوج ما يكون إلى صياغة علاقة جديدة وحضارية بين الدولة والمجتمع، بحيث لا تلتهم الدولة كل مساحات العمل والتأثير من المجتمع. كما أن المجتمع وعبر فعالياته المتعددة، هو بحاجة إلى صيانة وتعزيز مؤسسة الدولة.. فالقوة العربية الجديدة، والقادرة على إجهاض مشروعات الخارج، هي تلك القوة، التي تتولد من جراء إنهاء التوتر وسد الفجوة بين مؤسسة الدولة وقوى المجتمع في التجربة العربية المعاصرة. ونظرة واحدة إلى الكثير من المشاكل التي يعانيها الفضاء السياسي العربي، يجعلنا نعتقد وبشكل جازم، أن لا خيار أمامنا إلا خيار المصالحة بين الدولة والمجتمع، تلك المصالحة التي تعيد للمجتمع حيويته وفعاليته، وتعزز من قدرة الدولة، وتنهي حالة اللاثقة، التي كانت هي سمة العلاقة بين الدولة والمجتمع في الكثير من الدول والبلدان العربية. 2 - لمعطيات ومؤشرات وحقائق سياسية ومجتمعية قائمة في الفضاء العربي، نستطيع القول: إن تأخير مشروع الإصلاح، سيكلف العالم العربي الكثير من الخسائر البشرية والمادية، وسيفاقم من التوترات والتهديدات على المستويين الداخلي والخارجي. فاللحظة الزمنية الحالية، هي لحظة الانخراط في مشروع الاصطلاحات ووفق أجندة وأولويات عربية، وأي تأخير لأي سبب من الأسباب، يعني ضياع الفرصة والمزيد من الأزمات والتوترات والمخاطر. لذلك فإننا نعتقد أن خيار الإصلاح السياسي في اللحظة الراهنة، هو الخيار القادر على اخراج مؤسسة الدولة في العالم العربي من الكثير من نقاط ضعفها وقصورها البنيوي والوظيفي. كما أن هذا الخيار، هو القادر على ضبط المجتمع، وانهاء توتراته بعيداً عن خيارات العنف والعنف المضاد. لذلك فإن الإصلاح السياسي حاجة عربية أكيدة، وضرورة مشتركة للدولة والمجتمع. 3 - إن العلاقة جد قريبة بين مفهوم الأمن، ومفهوم الإصلاح إذ في ظل الأوضاع الاقليمية المتوترة، لا يمكن صيانة الأمن الوطني لكل دولة عربية، إلا بمشروع الإصلاح، الذي ينهي الكثير من العوامل والأسباب التي تفضي أو تؤدي في محصلتها النهائية إلى الإخلال بالأمن والاستقرار. فالأمن الشامل اليوم، أضحى ضرورة لكل شيء. فلاتنمية بلا أمن، ولا استقرار بلا أمن ولا علاقات طبيعية بلا أمن. ولكن السؤال الذي يطرح دائماً: هل يمكن أن نحقق الأمن الشامل بدون الإصلاح السياسي. إننا نرى ومن خلال تجارب العديد من الأمم والشعوب، أن الإصلاح وما يخلق من ظروف وأوضاع جديدة، من المداخل الأساسية والضرورية لإنجاز مفهوم الأمن. فالإصلاح السياسي حاجة عربية، لأنه سبيلنا لتحقيق أمننا الشامل ولا يمكننا بأية حال من أحوال، أن ننهي عوامل الإخلال بالأمن في الفضاء العربي، إلا بالانخراط الحقيقي في مشروع الإصلاحات السياسية والثقافية والاقتصادية. 4 - إننا وفي الوقت الذي نرى ضرورة الإصلاح السياسي في العالم العربي، وأنه حاجة ضرورية لا غنى عنها، إذا أردنا الأمن والاستقرار. نعتقد أيضاً أن الإصلاح في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، لا يمكن أن يتحقق دفعة واحدة، وإنما هو بحاجة إلى خطوات عملية متواصلة، تفضي عبر الاستمرار والتراكم إلى إنجاز مشروع الإصلاح الشامل في الواقع العربي، فالمرحلية والجدولة الزمنية لمشروع الإصلاح ضرورة، لا تقل في أهميتها وضرورتها عن أهمية وضرورة مشروع الإصلاح نفسه. لذلك نحن بحاجة إلى مشروع وطني متكامل، يجعل من الإصلاح قطبه ومحوره الأساسي، ومن ثم العمل على اتفاق قوى المجتمع وتعبيراته المتعددة على جدول زمني لإنجاز مفردات الإصلاح في الواقع الخارجي. وعليه فإننا مع الإصلاح السياسي والثقافي والاقتصادي في العالم العربي، وفي الوقت نفسه نعتقد اعتقاداً جازماً أننا لا يمكن أن نحقق هذا المشروع دفعة واحدة، وإنما عبر خطوات عملية متواصلة لتحقيق كل مفردات هذا المشروع الحيوي في واقع العرب السياسي والثقافي والاقتصادي. وجماع القول: إن العالم العربي بكل دوله وشعوبه، بحاجة أن يخطو خطوات عملية وحقيقية في مشروع الإصلاح. وذلك من أجل إنهاء الاحتقانات والتوترات الداخلية، وحتى يتمكن هذا الفضاء السياسي من امتلاك القدرة الحقيقية على مجابهة تحديات الخارج ومشروعاته ومبادراته.