قرأت قصيدة أبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري، المنشورة في جريدة الجزيرة، في يوم الخميس السادس من شهر رجب، سنة 1426ه، وهي قصيدة موفقة الروي، وعباراتها جيدة السبك، يتلألأ نسجها مع ما يريده الشاعر، والفاظها سلسلة، يرتفع إيقاعها فيطرب السامع، ويهز مشاعره. والقصيدة بأبياتها، تشرق أحياناً، وتومض حتى لايخبو لها وميض، ولعل وقع الألم في نفس الشاعر من جراء فقد مليك البلاد، خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود، (طيب الله ثراه) مازال يهلب أعصابه وأعصابنا، ويبعث الشجن في نفوسنا حين نقرأ أبيات قصيدته، بمواقفها المفجعة..وقصيدة الأستاذ أبي عبدالرحمن ابن عقيل، لاتخلو من الجمال الشعري، غير أنه لم يطو قصيدته على الأسرار، والوصف الذي لاتحديد له ولاوضوح، حيث أبقى على المعنى الذي يدور في خلده، وعمل مخيلته ممزوجة بأجمل مافي نفسه إلى ماضي مليكنا الملك فهد (رحمه الله) وأسكنه فسيح جناته، وإلى أمل كبير في المستقبل على يدي مليكنا الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود (حفظه الله ورعاه وأطال في عمره) فجاءت القصيدة متعددة العواطف، بديعة المعاني، خصبة الجمال، وكان جمال معانيها أكبر مما أراد أن يقوله شاعرنا. هذه مقدمة، يحتم علي الموقف أن أبدأ حديثي بها، قبل أن أتطرق إلى قصيدة أبي عبدالرحمن ابن عقيل، الأديب الأريب، العالم النحرير، الذي خلد بقصيدته هذه الشعر العمودي الأصيل، شعرنا العربي الخالد، الذي نقلته الأجيال اللاحقة عن الأجيال السابقة، حفاظاً على لغتنا الثرية (لغة الضاد)، لغة القرآن الكريم، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. هذه اللغة العربية الشاعرة التي حافظ عليها شعراء الشعر العمودي الأصيل، منذ عصر امرىء القيس، حتى البارودي، وأحمد شوقي، وحافظ ابراهيم، وأحمد إبراهيم الغزاوي، وحسين بن علي سرحان، وحمزة شحاتة، وغيرهم من الشعراء الكبار. وتبّتْ يدا كل من جنى ويريد أن يجني على شعرنا العربي الأصيل، وقاتل الله من أخذ يعبث بتراثنا الخالد، ويعيث فيه فساداً، ويصف شعرنا العربي بالجمود والتخلف، حتى أخذ الكثير من أبنائنا، من أبناء الأرض الطاهرة التي نزل القرآن في ربوعها، يأتمرون بدعوتهم وينهجون نهجهم، ويغتربون عن تراث أمتهم ولغتها، ويسيئون إلى هذه اللغة العربية الخالدة، من نحو وصرف ولغة وعروض وبلاغة، لأنها علوم محنَّطة في رأيهم المأفون..وأجل شاعر في رأيهم العفن، هو الذي يقول : (أشتهي أن أكون صفصافة خضراء قرب الكنيسة، أو صليباً من الذهب على صدر عذراء، تقلي السمك لحبيبها العائد من المقهى)... وقد رأيت ناقداً يعيش بين ظهرانينا، يحمل الشهادة العالمية وإجازة التدريس في العلوم العربية، التي تسمى في عصرنا الحاضر، شهادة (الدكتوراه)، وهو ممن يعلّم أبناءنا في جامعتهم، وهذا الناقد مع حبي وتقديري واحترامي له، لأخلاقه التي يتمتع بها بين زملائه وتلامذته، واستقامته في خلقه ودينه. إلا أنه أمر أحد الشبان الواعدين، ممن أراد أن يتمرد على تراثنا العربي، ويقلد التراث الأوروبي، وهذا الشاب وغيره من الشبان، يريدون أن يقتحموا منابر الأندية الأدبية الثقافية، وغيرها من الصروح العلمية، بأدبهم الغث، وشعرهم المريض الذي أدى إلى كوارث في النحو والصرف واللغة والعروض. وقد أخذ هذا الناقد الأكاديمي الذي أُحبه ويحبه من عرف أخلاقه وأمانته، بيد أحدهم، وأمره أن يرقى منبراً من منابر إحدى الجمعيات الثقافية، لينشد بملء فمه أمام الجمهور ويقول:(أذكر حين كان يباغتني الفجر، أصحو، كئيباً، مثقلاً بالطريق الذي سوف أحمله على ظهري..أذكر أن العصافير كانت تغرد من الشنطة المدرسية، في صباح الإجازة يوم الخميس، أذكر أن الطريق إلى المدرسة كان يرفل بالأغنيات، ولكن لم أكن لأراها، لأن عيوني مثقلة بالنعاس..الان أذكر جيداً وهي تغسلني بغبار الطباشير، وأنا غارق في البياض). ويستمر في هذا الكلام الذي يحتاج إلى صياغة جديدة، تُصلح ما جاء فيه من أخطاء في اللغة، لغتنا العربية، إلى أن يختتم كلامه بقوله: (كالسماء تدق نواقيسها، ليعود الرعاة إلى مخبأ في الجبال، فلا ينظرون إلى ما تدس من الماء في باطن الأرض). أرأيتم مثل هذا الكلام المبتذل، يتلى على جمهور من الناس، وينال منهم التصفيق، حتى تحمر أكفهم، فيعتقد أبو الكلام المبتذل الذي اقتحم المنبر، أن الشهرة تؤخذ بالطبل البلدي..وانظر الصفحتين : 377 و 378من كتابي (ماهكذا يكتب الشعر). وكلام هذا الشاب الذي سماه شعراً، يبدو لي من كلامه أنه قد تأثر بقصيدة للشاعر الهندي الكبير(طاغور)، فسلخها بعد أن أزال بعض كلماتها، وأحل مكانها أخرى مرادفة لها في المعنى. يقول طاغور :(كنت أسير بجانب الطريق لا أدري لماذا أسير هناك، عندما مر الظهر، هفهفت فروع الخيزران وسط الريح)..إلى أن يقول :(إن الظلال تزداد سواداً، والماشية تعدو لمرابضها، والضوء شاحب فوق المروج المنفردة، والقرويون ينظرون إلى القارب على الشاطئ)..وانظر ديوان الشاعر الهندي (طاغور)، ترجمة الأستاذ لطفي شلش.. وقصيدة الشاعر الهندي الكبير(طاغور)، قرأناها مترجمة عن اللغة الهندية، ولو قرأناها بلغتها الهندية أو الفارسية، لأخذنا نرددها لجمالها وروعتها، لأن الهنود والفرس يكتبون أشعارهم بلغتهم في أوزان لها إيقاعها وجرسها، وهم يحترمون أوزان شعرهم، وينادون بها.. وقد سمعت بعضها من أستاذنا محمد سليم (رحمه الله) مدير المدرسة الصولتية بمكة المكرمة، بحضور شيخي وأستاذي أبي زهير أحمد علي أسد الكاظمي الحسيني..وكنت أسمع منه عرائس القصائد الهندية والفارسية، التي ترتاح إليها النفوس، فتقبل إليها الآذان مصغية، لأسرار جمالها، وتألق معانيها، وسمو ألفاظها.. وأريد أن أهمس في آذان أبنائي الأكاديميين، من حملة (الدكتوراه) :أن المنبتّ لا أرضاً قطع ولاظهراً أبقى، وليس من الإنصاف في شيء أن ننادي بتقليد الشعر الغربي، وأن نهجر شعرنا العربي الأصيل، ونهون من شأنه، فبعض شعرائنا المعاصرين بله شعراء العرب الأقدمين، كان نصيبهم من الخلود أوفى من نصيب كثير من أدباء الغرب، لو كنتم تعلمون. والكلام عن هذه الظاهرة الذي أخذ يروج لها أساتذة يعلمون أبناءنا، ويريدون أن يقتحموا بتلامذتهم منابر الأندية الأدبية، ويزحزحون عنها شيوخ الأدب الذين يسعون إلى إحياء القديم من أدبنا الخالد، وبعث نفائسه، ويتخذونه صُوى يهتدى بها، ودليلاً في معارجها إلى النمو والرقي، ويبنون الشعر الحديث على أركان الشعر القديم، ويأخذون من الشعر الغربي المعاصر ما يتلاءم مع تراثنا، في قوالب من بلاغتنا وقوافينا وأوزاننا ونحونا وصرفنا التي مرت عليها العصور، وهي حيث هي ومازالت قوة وجدة وكمالاً وسمواً وارتفاعاً.. وكيف يستشعر أبناؤنا ما أقوله لهم، ويجدون من معلميهم من يحثهم على نبذ تراثنا الخالد، ولغتهم الجميلة بصورها وبديع بيانها وحسن أسلوبها، ويطلبون منهم أن ينجلبوا وراء الشاعر الأفين، الذي يقول: كم نبشنا عن القوافي كتاباً فشكت جهلنا المبين السطورُ وخرجنا نسيل شعراً مقفى رقصت روعةً عليه الحميرُ وهذا الشاعر، عربي بدمائه ولسانه، ولكن طغت عليه عجمة الحضارة الأوروبية فأخذ يقلد شعراءها، ويسب ويشتم شعراء العروبة، وأصحاب الشعر المقفى الموزون من أمثال حسان بن ثابت، وعبدالله بن رواحة، ومن جاء بعدهما من الشعراء الكبار، منذ العصر الإسلامي حتى عصرنا الحاضر.. ولقد أصبحنا في حاجة إلى تغذية عقول أبنائنا، بما يذكرهم بتراث آبائهم وأجدادهم، نزولاً عند قوله تعالى :(فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).. والحديث ذو شجون، ولو أخذتني شجونه، لأسهبت في الحديث حتى يدفعني إلى الخروج عما أنا بصدده. فأعود إلى قصيدة الأخ الكريم الشيخ أبي عبدالرحمن ابن عقيل (حفظه الله)، وقبل أن اعود إلى قصيدته، أرغب أن أذكر شيئاً عن بدء حياته العلمية، فلقد كان طالباً نجيباً في المعهد العلمي بشقراء، الذي التحق به كما التحق به تلامذتي النجباء : محمد بن عبدالله المؤذن الدوسري، وعبدالرحمن بن عبدالله الصويفي، وصالح بن صالح الزير، وعبدالله بن محمد القصيمي، والشيخ محمد بن سعد العييدي (رحمه الله)، الذين تخرجوا من المدرسة الأولى بالخرمة التي قمت بتأسيسها في سنة 1371ه، وقد التحق من أشرت إلى أسمائهم آنفاً بالمعهد العلمي في شقراء سنة 1375ه، بعدما حملوا الشهادة الابتدائية بتفوق، ثم عاد بعضهم إلى الخرمة عندما فتح معهد المعلمين بها سنة 1376ه، وكنت أدير المعهد مع إدارة المدرسة الابتدائية، وكان زملاؤه الذين أشرت إلى أسمائهم، يحدثونني عن ذكاء ونجابة زميلهم أبي عبدالرحمن ابن عقيل (حفظه الله).. وأعود إلى قصيدة أبي عبدالرحمن، وهي قصيدة من البحر البسيط، عروضها الأولى مخبونة (فعِلن) بتحريك العين، وضربها الأول مخبون مثلها (فعِلن) بتحريك العين أيضاً. ويجوز في حشو القصيدة الخبن في كل (فاعلن) فتصير به (فَعِلُن) بتحريك العين، وهو زحاف مستحسن، يقول عنه الصاحب بن عباد في كتابه (الإقناع في العروض وتخريج القوافي) صفحة (4) طبعة المعارف ببغداد سنة 1379ه :(وربما كان الزحاف في الذوق أطيب من الأصل). ويدخل الخبن أيضاً :(مُسْتَفْعِلن)، فتصير بالخبن إلى (مَفاعِلن) وقد افتتح أبو عبدالرحمن ابن عقيل قصيدته بقوله : جل المصاب وحار الحاذق الفَهِمُ واستوحش اليافع الشديد والهَرِمُ فيدخل الخبن الشطر الثاني من البيت، في وسطه، وهذا ما جعل أحد أصدقائي ممن يقرض الشعر ويجيده، يستغرب هذا البيت الصادر عن شاعر عالم بفن الشعر وعروضه، فهاتفني وأخذ يحدثني حتى بهتني بحديثه، فأخذت أقرأ القصيدة كلها، فعلمت أن السبب في اضطراب القصيدة عند سماعها، يعود إلى (الخبن) الذي دخل وسط الشطر الثاني من البيت، فالخبن إذا وقع في أثناء الشطر من بيت البحر البسيط، شعر القارئ الحاذق باضطراب النغم، واقرأ معي قول ذي الإصبع العدواني، واسمه : حرثان: أزرى بنا أننا شالت نعامتُنا فخالني دونه وخِلْتُه دوني فكلمة (فخالني)ووزنها :(511511)(مفاعِلُن)، وهي مخبونة بزحاف الخبن، ولكن القارئ لايشعر به، لوقوعه في أول الشطر، وأما كلمة:(وخلتُه)ووزنها: (511511)(مفاعِلُن)، فيشعر القارئ باضطراب الوزن، لوقوع الخبن في آخر الشطر.. فلو قال ذو الإصبع العدواني :(فخالني دونه أو خلتُه دوني) لزال الاضطراب، ولكن شعراءنا القدامى، حذقوا إيقاع الشعر ومهروا فيه. وانظر القصيدة في (المفضليات) للمفضل الضبي، صفحة 160، بتحقيق الشيخين: أحمد محمد شاكر، وعبدالسلام محمد هارون. غير أن الشيخين الفاضلين لم يتطرقا إلى ما تطرقت إليه في مقالتي هذه.. وقصيدة الأستاذ الفاضل أبي عبدالرحمن ابن عقيل، دخل الخبن الكثير من شطورها، وجاء في أثناء شطورها، فأحدث هذا الاضطراب، ولو أراد أبو عبدالرحمن أن يتجنب الخبنَ في قصيدته، وهو العالم بالعروض، لقال : جل المصاب وحار الحاذق الفهم واستوحش اليافع الصنديد والهرم حتى يبعد الخبن عن شطر البيت.. ونقطيع البيت هكذا: وأبو عبدالرحمن ابن عقيل (حفظه الله)، غير مضطر إلى ماقمت به من تعديل، لأن الخبن وارد وقوعه في وسط الشطر من بيت البحر البسيط، وله شاهد من الشعر العربي القديم، ولكنه لايرد إلا نادرا حتى خلا منه شعر الشعراء المعاصرين، فلم نجد (مفاعِلُن) في وسط الشطر من البيت في البحر البسيط عند الشعراء العباسيين او المعاصرين. ويجيء الخبن مرتين وأكثر في الشطر من البيت في البحر البسيط، ولكنه نادر أيضا، وله شاهد من الشعر القديم، لايعرف قائله: وهو قول الشاعر: لقد مضت حقبٌ صروفها عجبُ فأحدثت غيراً وأعقبت دولا وتقطيعه: ومن الزحافات والعلل التي تدخل البحر البسيط: (الطي) حيث يتحول به (مستفعلن) إلى (مفتعلن)، فإنه يحتمل عند سماعه، ولكنه يقل جرسه في الإذن عن (الخبن)، وأقبح الزحاف في البسيط ماخبلت تفعيلته، فتحولت (مستفعلن) إلى (فعِلتن)، حيث اجتمع فيها الخبن والطي.. قال أبو العلاء المعري: ليس حال المخبول فيما يلاقي مثل حال المطويِّ والمخبون وأخونا أبو عبدالرحمن ابن عقيل، عالم بكل ما أكتبه عن البحر البسيط، إلا أنه آثر هذا التغيير، تغيير التفعيلة (مستفعلن) إلى (مفاعلن) في أثناء شطور أبيات القصيدة، لقدرته على هذا التغيير، وليذكر علماء العروض بما نسوه. وقد دخل الخبن الكثير من أبيات قصيدة الشيخ أبي عبدالرحمن ابن عقيل في أثناء شطورها. وقد أحصيت هذه الأبيات فكانت عشرين بيتاً تقريباً. ومن هذه الشطور: (واستوحش اليافع الشديد والهرم) و(ينعون للدار أمنها وزينتها) و (والغبر من وهجه كأنها حُمم) و(باهى بك المتباينان فاتسقا) و (حليفك الصلب عند كل نازلة) و( بالرأي تغري وبالأناة تعتصم) و (كما تدفق من يمينك الكرم). وجاء الخبن في هذا الشطر أكثر من مرة، وهو نادر جداً. ومافعله ابن عقيل (حفظه الله) يعد توسعاً في العروض، وتذكيراً لنا بهذا العلم الجليل، الذي كاد ينقرض في مدرجات الجامعات، وحلقات العلم، فلاحول ولاقوة إلا بالله..