يكتسب الاحتفال باليوم الوطني الرابع والأربعين لدولة الإمارات العربية المتحدة رمزية خاصة، إضافة إلى قيمته التي لا تبلى على مر السنين وتوالي الأيام، فهو سيد الأيام ودرتها وتاجها المرصع بالمجد، إنه ذاكرتها الجمعية الخالدة. تولى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان تأسيس دولة الإمارات وقيادتها وهاجس الاتحاد يشكل شاغله الأول، فلم يرَ الناس في زماننا مَنْ شغلته مسألة الوحدة، وسكنت وجدانه حتى صار يلهج لسانه بها، وغدت قضيّته الأولى منذ أن وعى تاريخ المنطقة، وعرف أهلها، وجاب أرجاءها وربوعها، بما في ذلك تلك الأرجاء والربوع القصية الخفية عميقا في شخصية الإنسان الإماراتي والخليجي والعربي، مثلَ الشيخ زايد. كان الشيخ زايد رحمه الله يتحدث عن الاتحاد بلغة القائد الحصيف الذي يعي الفروق بين الممكن في تجلّياته الواقعيّة، وبين المطلوب في صورته المثلى، وقد أوضح بهدوء وبساطة وعمق طبيعة الروابط التاريخيّة بين الإمارات العربيّة وبقية دول الخليج، وكان للمملكة العربية السعودية مكانتها الخاصة في روحه ووجدانه؛ وقد شكل الاتحاد بين الإمارات الشقيقة واحدا من أعز أحلام الشيخ زايد التي رافقته منذ أيام شبابه، محققا الشرارة الأولى التي كانت تشغل الرجل الحكيم والشجاع جده زايد بن خليفة الملقب بزايد الأول، والمولود في أواخر الربع الأول من القرن التاسع عشر، الذي استلهم منه زايد بن سلطان عمق الأواصر بين القبائل العربيّة التي تتماثل في العادات، والتقاليد، والثقافة، وإن توزّعت في أمكنة شتّى، لذا كان من الطبيعي أن تتصدّر مسألة الاتّحاد تصريحه السياسيّ الأول، وتلك سمة من سمات شخصيّة هذا القائد التاريخي، حيث تتطابق الأقوال مع الأفعال على الدوام. لقد استطاع الشيخ زايد أن يؤسس دولة حديثة تقوم على العدالة والرفاه وتبني هوية حديثة تجمع بين الثبات والتحول. ومن الحق أن يقال إنّ ذكرى اليوم ترتبط بروح جديدة تؤسس لقيام نهضة حديثة في دولة الإمارات يصنع معالمها الفذة وأبعادها المستنيرة الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذي كان لقربه من والده في المقام الأول، الشيخ زايد، ثم من أخيه رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، صاحب الرؤى المستبصرة والفهم النادر لسبل عمل العالم المعاصر، اقتصادا وسياسة وثقافة، كان لهذا القرب إذن أن يصقل شخصية الشيخ محمد بن زايد كما نعرفها اليوم: قائد سياسي من طراز رفيع، وفي الوقت نفسه مدرك كل الإدراك لأهمية البعد الثقافي المعرفي في بناء الدول. إنّ المتأمّل في هذه المرحلة يجد أنّ مؤسسات الدولة صارت أكثر رسوخا واستقرارا، ويلحظ ازدياد التفاف الشعب حول قيادته ونجاح التنمية التي تقرأ الحاضر وتعرف المستقبل. إنها "الروح الجديدة" كما وصفها الشيخ محمد بن زايد، ولدت من رحم الولادة الأولى، يرفرف فيها علم الدولة على نحو متفرد. فلم تكتف الدولة بإنجازاتها في مجال القوة الناعمة، بل إنها تخوض غمار حرب عادلة في اليمن تدافع فيها عن رؤية التأسيس ومبادئ التمكين. وهي رؤية محبة للسلام، تسعى كي تدفع عن الدولة والمنطقة الإرهاب جنبا إلى جنب الشقيقة المملكة العربية السعودية. ولعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا بأن استخدام الشيخ محمد بن زايد، ولأول مرة تعبير "الروح الجديدة" قبل أشهر قليلة ليصف فيها العاطفة الجياشة التي انتابت الإماراتيين عندما استشهد منهم عدد، هو الأكبر في تاريخ الإمارات، من خيرة رجالها البواسل، لم يكن رغم استعمالها الدقيق الذي يصور مرحلة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، مرحلة تسجل تحولا جوهريا في تاريخ دولة الإمارات الحديث، والذي يصنعه ويقف وراءه بكل رؤاه ووجدانه ووعيه المستنير الشيخ محمد بن زايد، لم يكن يقصد من استعماله تعبير "الروح الجديدة" فقط ذلك الالتحام بين القيادة والشعب في ظروفهم الصعبة إبان تلقيهم خبر استشهاد البواسل من الإماراتيين، وإنما كان يشعر بالفخر والاعتزاز رغم الحزن، بالوعي الإماراتي الذي أكد له على نحو واضح أن الرؤية المستنيرة التي أسس لها باتت تجني الإمارات ثمارها، والذي يظهر على هذا النحو من الوضوح لأول مرة؛ وعي قد وجده الشيخ محمد بن زايد رمزا مشرقا وتجليا مهما ليعبر وبكل جدارة عن أن دولة الإمارات العربية المتحدة قد شبت عن الطوق، واكتحلت بالوعي الكامل، هذا الوعي، كان فارقا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ليس وعيا بضرورة البناء والتطوير، فهذا الأمر أضحى بديهة في تاريخ دولة الإمارات، بل وعي يتمتع باستنارة كاملة بروح جديدة، أضحت مسكونة بالوعي الكامل بضرورة حماية المكتسبات والذود عنها بكل غال ونفيس. لقد كان الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، يدرك أكثر من غيره في الإمارات بأن هناك خطرا محدقا بإرث زايد الذي أسس على الأصالة والمعاصرة، وصارت الإمارات بفضل هذا الإرث واحة للوحدة والتنوع والتعدد والانفتاح والتواصل والحوار، لكن، ومنذ التسعينات أدرك الشيخ محمد بن زايد ببصيرة متقدة ورؤية بعيدة أن آيدولوجيا الكراهية هي الشر الذي يتربص بها متسترا تارة بجلابيب الدين وأردية الإسلام والأصالة الزائفة، مظهرا في الوقت نفسه خطابا متمسحا بالحداثة والتجديد والتغيير، ولم يكن بوسعه آنذاك إلا أن يؤسس لوعي حضاري وروح جديدة تتصدى للظلاميين والمتطرفين بواسطة التعليم والثقافة والفنون، ولم يخب ظن الشيخ محمد بن زايد بأن القوة الناعمة المستنيرة أصبحت اتجاها ووجهة وأضحت ضوءا ونورا مشعا أمام الإماراتيين جعل باستطاعتهم أكثر وأكثر كشف الخطابات الظلامية وفضحها ورفض الشعارات المخاتلة التي تتمسح بالفضيلة المصطنعة وهي شديدة البعد عنها. لقد وصل المشروع التنويري الذي قاده الشيخ محمد بن زايد ذروته الرفيعة والفسيحة في أبوظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة عندما بدأ، وبنفسه يحرس التعليم ويمنع بعين يقظة ساهرة أيدولوجيا الكراهية أن تعبر إلى المناهج، ويضع المبادرات المستنيرة لردم دهاليزها المخاتلة، وفي سبيل ذلك تبنى أحدث المبادرات التنموية ودعهما، فازدهرت حركة الترجمة في العالم العربي، وتمتع الكتاب والمفكرون المستنيرون بالدعم والتقدير الذي يستحقونه عن طريق جائزة الشيخ زايد للكتاب، وانطلقت المشاريع الثقافية العملاقة في جزيرة السعديات، كما لم يفته في الوقت نفسه الرعاية الكاملة لإحياء اللغة العربية وآدابها وفنونها المتفرقة عبر سلسلة من الأنشطة والمشاريع، بل كان يؤمن بأن الثقافة المستنيرة بحاجة أن تطلب ذاتيا من قبل الإماراتيين، ولتحقيق ذلك انطلقت البادرات للتشجيع على القراءة والتأليف وتحقيق التراث ودعم الأدب والثقافة المحلية. لقد أسس الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بذلك مشروعات فكرية تنويرية كبرى كان هدفها تعزيز حركة النقد الذاتي التي تمكن الإماراتي وتعطيه القدرة على سبر أعماق الأفكار الهدامة قبل أن يتقبلها ويقع ضحية جهله بها، إضافة إلى ربط الإماراتيين بقضاياهم المصيرية العربية، وتصدى بكل حزم ودعم منقطع النظير للإرهاب والفكر المتطرف في مصر ووقف مع خيارات الشعب المصري في ثورته ضد الإخوان المسلمين ثم استكمل دعمه في رحلة مصر المحروسة حتى أن وصلت بفضل سواعد أبنائها المخلصين إلى مدارج النور وشواطيء البصيرة، وكانت رؤيته المستنيرة المتبصرة تعي أن الفكر يجابه بالفكر وتدرك ضرورة تحصين المجتمع وتثقيفه والسعي به نحو الانفتاح الواعي على الحضارات والمعارف. لم يكن الشيخ محمد بن زايد آل نهيان مدفوعا بأهداف ضيقة بل بمشروع تنويري عربي يجعله بامتياز سادنا وفارسا من فرسان التنوير والتجديد الذي يتطلع إلى أن يقود شعبه بحكمة واقتدار نحو التقدم، يدعمه في كل ذلك وعيه بالتاريخ ومعطياته والجغرافيا وأهميتها. وهو ما يتجلّى في علاقته المتميزة بالمملكة العربية السعودية التي بلغت حد التعاون الاستراتيجي للدفاع عن هوية الأمة ومستقبلها وإنجازاتها.