امتداداً لما توليه المملكة العربية السعودية من اهتمام بالغ بأمر الإسلام والمسلمين ، وانطلاقاً من رسالتها الدائمة والمستمرة في هذا الشأن .. يرعى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله المؤتمر الثامن لاجتماعات وزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية ، في المدة من 28/5 1/6/1430ه ، ، وذلك في محافظة جدة ، تحت عنوان :(الأمن الفكري ودور وزارات الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في تحقيقه) ، بمشاركة (62) دولة . وقد أحسنت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في بلادنا الغالية المملكة العربية السعودية ، وهي الحاضنة لهذا المؤتمر ، وقبله حضانتها الدائمة لأمانة المؤتمر ، ومن منطلق رسالتها وواجباتها الإسلامية في اختيار الموضوع المهم الذي هو المحور ، وحديث الساعة في السنوات الماضية ، ولاسيما مع ما عانته الأمة من أزمات ومشكلات ارتبط غالبها بموضوع الفكر الذي يعتنقه بعض المارقين عن جماعة المسلمين . والأمن الفكري مطلب مهم في حياة المجتمعات ، ومن المعلوم أن للأمن جوانب متعددة منها الاجتماعي ، والبيئي ، والاقتصادي ، والفكري ، ولكن الأمن بمفهومه الشامل من الأمور الضرورية واللازمة لصلاح الدين والدنيا ، وإذا كانت الجوانب المتعددة للأمن بمختلف أنواعها محدودة في مجالها ، فإن أخطرها بلاشك هو الأمن الفكري ، الذي يؤثر على جميع جوانب الحياة ، بل إن هناك من شبهه بأنه بمثابة الرأس للجسد أو القلب الذي إن عطب عطب بقية الجسم ، وإن أصيب بالوهن أصيب سائر الجسد بالوهن والضعف ، وعندما يواجه المجتمع أي مجتمع خللاً أو انحلالاً فكرياً ، فإن المجتمع سيعاني من هذا الخلل أو الانحلال ، فقد يفضي هذا الخلل الفكري إلى الغلو والإرهاب والهدم ، مهما كان مصدر هذا الفكر ، سواء ارتبط بالدين أو بغيره . ولاشك أن أي خروج عن الفطرة السوية ، هو مما لا يتفق وسماحة ديننا وشريعتنا الإسلامية ، وتعاليمه السامية ، وأخلاقه الفاضلة .. كما أن اضطراب الفكر وتشويهه ، والانحراف الفكري سبب في انتشار الفتن ، وفقدان الأمن ، وظهور الفرق والانشقاق ، وحصول القلاقل ، وينتج عنه اعتداء على النفس البشرية ، ومكتسباتها ، وأموالها ، وأعراضها ، والإفساد في الأرض ، فيؤثر على اقتصاد البلدان ، وأعظم من هذا حينما يربط بالإسلام ، فيشوه صورة الإسلام ، وينفر غير المسلمين منه عندما يلصق العمل الإرهابي والتخريبي باسم الإسلام ، فيضيق على أهله ، وينال منه عبر وسائل الإعلام . وحينما يستقر الأمن الفكري في مجتمع ، فإن هذا عامل رئيس في استقرار المجتمع ، واستقامة أوضاعه ، وازدهار بنائه ، ويبعده عن المشاكل والقلاقل ، وكما أشرت فإنه عندما يتحقق الأمن الفكري يتحقق بإذن الله الأمن في الجوانب الأخرى . وأعود للتأكيد على أهمية الموضوع الذي تم اختياره ، لما للأمن الفكري من تأثير على مجريات الحياة ، وتصرف الإنسان ، بل والمجتمع بأسره ، ولاسيما من خلال عملية التأثير المتبادل ، وتكمن أهمية الموضوع فيما يواجه قضية الأمن الفكري أيضاً من تحديات ليست داخلية فقط ، فليست القضية مقتصرة على فكر وافد يحمله مجموعة من الشباب ، بل هناك مؤثرات عديدة على الأمن الفكري، منها ماهو داخلي ومنها ماهو خارجي ، فالأمة الإسلامية تواجه تحديات في مجال الأمن الفكري ، فالغزو الفكري والحروب العقائدية والعسكرية ، والحملات الإعلامية ، والظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، والنوازل ، كلها مؤثرات لها وقعها على الأمن الفكري . والمؤتمر الذي تستضيفه المملكة العربية السعودية ممثلة في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد أدرجت في محاور وموضوعات الاجتماع ، الذي يستمر لمدة ثلاثة أيام ، عدداً من الموضوعات ذات العلاقة بالموضوع الرئيس للمؤتمر ، ومن بينها : خطة الارتقاء بالمساجد موقعاً ورسالة ، وخطة إصدار كشاف عن الأوقاف في العالم الإسلامي ، والتجديد في الفكر الإسلامي ، والخطاب الديني بين الثوابت والمتغيرات ، ودور الدعوة الإسلامية في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية ، وحوار الأديان والحضارات ، ومشروع برنامج الوسطية منهج وحياة ، والتنصير في بلاد المسلمين ، وتقرير حول تقدم العمل بصندوق الاستثمار في ممتلكات أوقاف البنك الإسلامي ، وتقرير عن إنجازات المشاريع التنفيذية لتنسيق جهود الدول الإسلامية في الأوقاف . وبهذه المناسبة ، فإني أوجه رسالة إلى المسؤولين عن الشؤون الإسلامية في العالم الإسلامي ، وقد تقلدوا مسؤولية عظيمة ، فأقول : أنتم تحملون أمانة عظيمة ليست ككل الأمانات ، ولا تشابه غيرها من المسؤوليات ، إنها مسؤولية عظيمة فيها التكليف والتشريف ، التشريف بأنكم تتولون مسؤولية الدين ، وهو شرف عظيم لا يماثله شرف ، وهو قبل ذلك تكليف بما فيه من مسؤوليات أمام الله ، ثم الدين والمجتمع ، ولذا فلابد من أن تؤدوا الأمانة الملقاة عليكم تجاه دينكم ومجتمعاتكم بالحرص على نقاء الدين ، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحابته صلى الله عليه وسلم ، ووفقاً لما جاء في كتاب الله الكريم ، وسنة المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم . وهذا الوقت الذي نعيشه أصبح فيه من المؤثرات والتحديات الشيء الكثير ، ولذلك فلابد من المحافظة على غرس العقيدة الصافية في نفوس أبناء المسلمين ، التي تكون بإذن الله حاجزاً لهم ضد جميع المؤثرات ، ثم الاهتمام أيضاً بالجانب السلوكي والتطبيقي في المعاملات ، والمجتمعات المسلمة كغيرها من المجتمعات ، ولاسيما فئة الشباب منهم ، أصبحت تتأثر بما يحدث في العالم ، ولاسيما مع تفجر المعلومات ، وانتشار وسائل الاتصالات من فضائيات وإنترنت وغيرها ، حتى أصبح المواطن الصيني في بكين متأثراً بما يحدث في أزقة نيويورك ، والعكس كذلك ، وليست مجتمعاتنا ببعيدة عن ذلك ، فقد تنوعت الوسائل التي تستمد منها المعلومات ، ولم تعد المدرسة والمجتمع المحلي والإذاعة المحلية والتلفزيون المحلي هو الذي تستقى منه المعلومات كما في الماضي ، بل أصبح الطفل في سريره ، والموظف في مكتبه ، والتاجر في محله ، يعلم ما يحدث في سائر أنحاء العالم ، ويتواصل معهم بلمسة زر ، لذا فالمسؤولية الملقاة على القائمين على الشؤون الدينية كبيرة جداً ، وأكبر مما كانت عليه في السابق ، فلابد من المحافظة على صفاء العقيدة أولاً ، فإذا سلمت العقيدة سلمت ما بعدها من الأمور ، وحينما يدخل الخلل والبدع في العقيدة فإن ذلك مفتاح الشرور ، ولابد من الاهتمام في غرس القيم بتكثيف الدروس الخاصة في التربية الإسلامية التي أصبحت شبه معدومة في بعض بلدان العالم الإسلامي ، وأصبح القرآن الكريم مرتبطاً في أذهان الناس بما يتلى في المساجد ، أو في مراسم العزاء فقط ! ولابد من تعميق الوازع الديني لدى الأبناء ، ففي صلاحهم صلاح للمجتمع ، وتحقيق مبدأ القدوة الحسنة ، والتربية السوية المستمدة من الكتاب والسنة ، وإشعار الفرد بأهميته في المجتمع مهما كان ، وأن الجميع في سفينة واحدة ، والتوعية بما يحيط بهم من أخطار وتحديات ، ولاسيما في سعي بعض الجهات في نشر الرذيلة، وإذابة الفضيلة في المجتمعات الإسلامية، وحرصها على انحدار القيم والإخلال بها ، وانهيار الأخلاق .. ولابد من الاستفادة من التقنيات الحديثة في مجال غرس القيم في نفوس الأبناء ، والتعريف بالدين ، وتحسين صورة المسلمين وليس الإسلام أمام غير المسلمين ، والدفاع عن حقوقنا ، وتعزيز القيم والأخلاق والسلوك الحميد في نفوس أبنائنا ، والاستفادة من الإنترنت والفضائيات ليس بلغاتنا المحلية فقط ، بل لابد من استثمار هذه التقنيات باللغات العالمية ، والتعاون المالي والفني بين الدول الإسلامية في هذا الجانب . وإذا كان الإرهاب قد ضرب أطنابه في العالم الإسلامي ، فإن أخطاراً محدقة غفل عنها المسلمون فترة من الزمن ، وخاصة المسؤولون منهم ، وانشغلوا عنها أو أشغلوا بها ، ألا وهي قضية التنصير الذي يغزو العالم الإسلامي صباح مساء بقضه وقضيضه ، وإمكاناته براً وبحراً وجواً ، بقوافله “التنصيرية” ووسائله ، وإمكاناته المادية والفنية الهائلة من تعليم ، وتطبيب ، وحفريات ، وعروض بالهجرة لبلدان الغرب والعمل بها ، والدراسة فيها ، وكذلك الحال بالنسبة للطوائف والملل والنحل الهدامة التي استغلت مساحة الفراغ والفتور من قبل بعض بلدان العالم الإسلامي فأعدت عدتها ، وغزت بعض بلدان العالم الإسلامي ، وغررت بالجمال والمتمصلحين فيه ، وبدأت في بث سمومها في العالم الإسلامي ، وبدأت في التأثير عليه ، مما يشكل معه الاثنان خللاً في الأمن الفكري، والأمن العام، وانظروا إلى بعض القلاقل المحيطة في بعض بلدان العالم الإسلامي ، وأنتم تعلمون من مصدرها ومن الممول لها ، بل إن لوثة الإرهاب التي ابتلينا بها اكتشف أن من مصادر تمويلها الرئيسة بعض الدول التي تعتنق هي أفكار لا تمت إلى الإسلام بصلة ، وتتشرف بأنها حاملة لواء الإسلام في هذا العصر ، وأنها هي المتصدية للطواغيت ؟! إنني كمتابع للعمل الإسلامي في الداخل والخارج ، وممن تشرف بخدمة هذا الدين لما يزيد على ثلاثين عاماً ، من خلال واجبي الرسمي ، أو الاهتمام الخاص ، أتطلع وأرى إن شاء الله بوادر النجاح لهذا المؤتمر تفاؤلاً وثقة بالمولى عزوجل المعز دائماً لدينه، ثم بهمة الرجال المخلصين قادة بلادنا الذين سخروا موارد هذا البلد في خدمة الإسلام والمسلمين، بما يقدم من خدمات جليلة للإسلام والمسلمين ، والدعم المادي والمعنوي ، وقد أكد ذلك معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ ، الذي أكد أن استضافة المملكة لهذا المؤتمر الإسلامي الكبير في دورته الثامنة ، دليل على حرصها ورغبتها في احتضان كل ما من شأنه خدمة الإسلام والمسلمين ، وفق توجيهات ومؤازرة خادم الحرمين الشريفين ، وسمو ولي عهده الأمين ، والمملكة استضافت قبل ذلك أربعة مؤتمرات : المؤتمر الأول والثاني والثالث في مكةالمكرمة 1399ه ، وعام 1400ه ، وعام 1401ه ، وعام 1409ه في محافظة جدة ، وهذا هو المؤتمر الخامس ، واستضافة المملكة لخمسة مؤتمرات من ثمانية أكبر شاهد على الهم والاهتمام الأكيد الذي توليه المملكة للجانب الإسلامي ، ولكن هذا المؤتمر كما أسلفت يأتي في ظروف وأوقات يمر بها عالمنا الإسلامي ، كما يمر بها العالم أجمع ، وأصبح تأثيرها واضحاً على الأمة بما تعانيه من أزمات ومشاكل ، ولابد من استنهاض الأمة نحو تأمل مقاصد الشرع في العبادات والمعاملات ، والآداب والأوامر والنواهي ، وغايتها العظمى في جمع الكلمة ، وغرس المحبة ، وزرع المودة ، ونشر الألفة في المجتمع .. ولابد من العمل في ظل المتغيرات والفتن والأحداث ونشاط الأعداء، من التعاون على البر والتقوى بين المجتمعات، والتناصح ، وأن لا يكون أحدٌ معولاً في يد الأعداء . وفي الختام أقول : إن لأمتنا الإسلامية سمة بارزة ، هي الوسطية والاعتدال ، ولابد من العمل على نشر الوسطية والاعتدال ، ومواجهة الإفراط والتفريط ، يقول الحق تبارك وتعالى :(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) . alomari 1420 @ yahoo . com