شعر العرب فاتحة الفواتح إلى نهاية هذا الجنس ، قيل ويقال ولازال عليه الواقع .. لماذا لأنه المعين الثر لحضارية هذا البشر كما انه الشاهد والمناط المدهش سواء بعجائبه من أداتي أو بلاغي أو غرائبه من مسرف أو غريب .. إنه النهر الهادر الحلو النهر الذي تعانقت على ضفافه كل المذاقات كل اللذائذ ، انه أبو الولائم والحلاقيم والأفواه المنقوشة ، انه المنبع الذي يستغني ولا يستغنى عنه.!! هل استغنى أصحاب السير أو علماء التاريخ بأحداثه ومواقفه الفاصلة عنه؟! أم أصحاب البلدان ومعاجمهم المحيطة. أو علماء اللغة واساطين البيان أو حتى ذخائر علماء التفسير ألم يكن الشعر في هذا الحيز وحتى عالميا - مادتهم في الشرح ووجود المثل؟! كذلك أرباب السياسة وما واكبها من مراوغات وحيل الحكام ، والمتتبعون للطبيعة ألم يجدوا فيه غايتهم من تحديد المسارات ومهاب الرياح ودلالات النجوم ووصف الأنواء وتحديد المواقع وصفة التراب ونوعية الحيوان والشجر ومدة النبت ومواسم الكلأ.. أما علماء العربية عندما استغلت معارفها وتمايزت عن بعضها فالشعر ولا غيره مادتهم في صيغه أو تلميحه أو خطفه .. ترى لو كان علماء اللغة الذين جمعوا مادة القواميس تخطوا القبايل السبع التي اشتهرت بالسلامة والفصاحة أو كما قال أحدهم: (لا أقول قالت العرب حتى أرى الحرار) أو قول الآخر: (علياء تميم وسفلى هوازن) أو: (أفصح الناس أهل السروات) .. أقول لو كان الجمع مضاعفاً مع التحرز من اللكن ومفارقات اللهجة - وهم قد فعلوا - لم يكن أبو عمرو بن العلاء مصيبا؟ أقول هذا مع ان الموجود المرصود بحر لا ساحل له .. هذا الشعر الذي نزل القرآن الكريم وهو قد بلغ أرقى ذروة في علميته ونظامه ومعمارية وجوده ظل كما هو تراثاً مفعماً متجدداً في الصدور والأفئدة .. إلا ان كلام الله جل جلاله قد خطف النور وحقق المعجزة التي كانت فوق طاقة البشر وذلك بالنقاوة والعلو وبأخبار الغيبيات التي أحاطها وسلسل احداثها مما لا علم لأحد به من الخلق ومن ثم الارتقاء بالذوق والفهم والاعتقاد الجلي كل هذا وفق الأساليب المدهشة التي يعيها الإنسان العربي من عمق العمق التي ثورت في داخله صفاء الفطرة ومبعث الروح بضوئه ويقينه .. لقد ضرب الله جل جلاله لهذا الجنس مثلا معجزا ومهيمنا ولكن وفق ما يتحدث به ويستحوذ على كل ما يعقل .. انه كلام الله العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو النبراس والخاتم لكل الخلق المؤمن .. لقد اختار الخالق له هذه اللغة دون سواها لصفات ومزايا يعرفها .. فمرحبا بلغتنا وخلودها مدى عمر هذا الكون الطافح من المدى إلى المدى.. كذلك كلام نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام مبينا وشارحاً وفيه من الاعجاز البلاغي والاندياح والتدقيق ما وقف دونه الفحول الكبار إيمانا بسموه الذي لا يضاهى .. كل هذا باللغة العربية لغة العقيدة الموحدة والحضارة التي ولدت في عين الشمس .. لغة الإعجاز المتنامي والتاريخ الموثق بالنور المشرف بلآلئه وعظمته .. ولعل الاثر الشريف الخالد لسيدنا المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (أحب العرب لثلاث لأنني عربي والقرآن عربي ولغة أهل الجنة العربية) أو كما نص عليه .. كان قاطعاً.. وقد قلت من قصيدة لي في هذا الجانب: شعر يذكرني بعطر الغاليّهْ وبرجفة العنقود رحب الداليّهْ!! وبطعم ما درجت عليه طفولتي وتلونت بمباخري أحلاميهْ!! وبدوحة من ألف عام لم تزلْ تندى وتورق بالنجوم الغافيهْ!! تسمو كأن الله لم يخلق سوى أغصانها وفروعها المتناميهْ!! فيها من الصحراء حرقة عاشق ورفيف مبلول وشكوى باكيه!!