مطلع التسعينات الميلادية صدم المجتمع الإنساني إزاء أحد أبشع المشاهد المأساوية في التاريخ، حيث التقطت كاميرا مصور عالمي صورة لطفل جائع بجنوب السودان يزحف على بطنه للوصول إلى معسكر للإغاثة يبعد حوالي كيلو متر واحد بينما انتصب واقفاً خلفه مباشرة أحد النسور الجبارة يرقب موته حتى يأكله وهو يشاهده في الرمق الأخير يحتضر! اختفى هذا المصور بعد ذلك، ثم وجد منتحراً في غضون أشهر قليلة جراء المشهد الفظيع الذي استقر في عقله الباطن ومشاعره الدفينة. واليوم ونحن في الألفية الثالثة لم يتصور العالم أن ذات المشهد الحزين قد يتكرر بصورة غير مسبوقة مع أزمة الغذاء الحالية وارتفاع الأسعار الجنوني اللذين ضربا سكان المعمورة! والذي دفع ب44 قائداً أممياً إلى أن يهرعوا بحثاً لحلول عاجلة للأزمة في مؤتمر الغذاء العالمي الذي عقد في روما مؤخراً فهنالك 100 مليون شخص جديد سيضافون لأعداد الأشخاص الذين يعانون من الجوع أصلاً والبالغ عددهم 850 مليوناً آخرين بسبب أزمة الغذاء وارتفاع الأسعار حيث سجلت بعض أسعار السلع التموينية أعلى مستوياتها منذ 30 عاماً، واشتعلت مظاهرات عارمة جراء ذلك في بعض الدول وتعاني حسب التقارير 19 دولة من عجز الحساب الجاري وتتعرض لخطر كبير بسبب ارتفاع فواتير وارداتها من الحبوب بصفة خاصة في كل من الأردن موريتانيا ليبيريا مولودفا زيمبابوي. أخطر الأسباب إن أخطر ما كشفته قمة روما هو الجرائم الثلاث الجديدة التي ارتكبتها الولاياتالمتحدة في حق الانسانية وأخطرها سياسة الوقود الحيوي الذي تنتهجه بجانب الاتحاد الأوروبي وهو أحد أهم أسباب أزمة الغذاء العالمية الراهنة فقد اعتبر (جان زيغلر) مقرر (لجنة الحق في الغذاء) التابعة للأمم المتحدة الوقود الحيوي جريمة ضد الانسانية والوقود الحيوي ببساطة هو تحويل الحبوب والمحاصيل الزراعية لمادة (الإيثانول) لاستخدامها كوقود، وثبت أن 30 بالمائة من انتاج الذرة في الولاياتالمتحدة يذهب اليوم للوقود الحيوي، وتتمثل الجريمة الثانية ضد الإنسانية من قبل الولاياتالمتحدة في رفضها التوقيع على اتفاقية (كيوتو) في مؤتمر الأرض الذي عقد في جزيرة بالي بأندونيسيا وهي اتفاقية تقضي بالحد من انبعاث الغازات الصناعية باعتبار الولاياتالمتحدة أكبر دولة مصنعة، ومعلوم أن انبعاث الغازات هو الذي يقف حالياً خلف ارتفاع حرارة الأرض وتغير المناخ أحد أسباب أزمة الغذاء الحالية. الأمر الذي دعا منظمة أمريكية إلى الاحتجاج لدى وزارة الزراعة الأمريكية. التعديلات الجينية كما أن الولاياتالمتحدة انتجت كميات ضخمة من المواد الغذائية والألبان المعدلة وراثياً أدت إلى عزوف المستهلكين عنها في أوروبا والصين والهند واليابان وأمريكا الجنوبية وهذه هي الجريمة الثالثة التي ترتكبها في حق الانسانية وهي من أسباب أزمة الغذاء الحالية فقد نشرت مجلة (لاتست) الطبية المتخصصة ملخصاً لدراسة علمية أجراها العالم (بوشناي) في معهد الأبحاث التابع لجامعة (أوبرين) في بريطانيا فقد استخدم الدكتور (بوشناي) حبات البطاطا المعدلة وراثياً في تغذية مجموعة من الفئران وبعد فترة قام بتشريحها فاكتشف أن جهاز المناعة لديها قد أصيب بالخلل وبعد أيام تقاعد (بوشناي) عن العمل لكنه أعلن لاحقاً عن تجربة ثانية بالتعاون مع الدكتور (استانلي أيوني) وهو متخصص في الطب الداخلي، وأوضحت النتائج أن الآثار الجانبية السلبية ظهرت في أمعاء الفئران وفي أكبادها وغيرها من الأعضاء الداخلية، وقد أثار هذا الأمر علامة استفهام كبرى حول مصير المحصول الأمريكي الضخم من فول (الصويا) الذي زاد حجمه بنسبة 20 بالمائة عن العام السابق له بسبب التعديل الجيني كما طرحت اكتشاف العالمين الكبيرين أسئلة أخرى حول الحليب الأمريكي ومشتقاته الذي زاد حجم انتاجه 10 بالمائة بسبب التعديل الجيني، حيث تحقن المواشي بمادة تعرف علمياً ب(أ ر ب ج ه). السلاح أهم من الغذاء! لقد سخر مدير عام منظمة الفاو السنغالي (جاك ضيوف) من الدول الكبرى التي انفقت 1200 مليار دولار أمريكي عام 2006 على الأسلحة وحدها، بينما وصلت قيمة الغذاء المهدر في البلد الواحد 100 مليار دولار في غضون عام وبلغ الاستهلاك الزائد المسبب للبدانة في العالم 20 مليار دولار في العام الواحد، وتساءل ضيوف متهكماً إزاء هذه المفارقات قائلاً: كيف لنا أن نوضح لأصحاب الحس السليم والنيات الطيبة أنه تعذر علينا تدبير 30 مليار دولار سنوياً كي يصبح بإمكان 862 مليون جائع امتلاك أكثر حقوق الإنسان إلحاحاً.. أي الحق في الغذاء المنقذ للحياة؟. لقد أكدت الدراسات الغربية أن فقراء العالم أصبحوا ينفقون 80 بالمائة من دخولهم على المواد الغذائية، وعزت ارتفاع الأسعار الجنوني فوق الأسباب التي سقناها آنفاً إلى زيادة معدلات الاستهلاك في كل من الصين (1.3) مليار نسمة والهند (مليار نسمة) نظراً لارتفاع مستوى المعيشة في هذين البلدين بجانب ارتفاع أسعار النفط، وتكاليف الشحن وارتفاع حرارة الأرض بالطبع واضطراب الأحوال الجوية اللذين أديا إلى خسارة المواسم الزراعية في العالم. العام المقبل على خطر لقد أعلنت (الفاو) في أحدث تقرير لها أن أسعار الحبوب في العالم ستتصاعد العام المقبل بسبب انخفاض المخزون الدولي والظروف المناخية وتوقعت أن تتحمل بلدان عديدة أعباء التكاليف الإضافية قبالة وارداتها من الأسواق الدولية بما يفوق السنوات السابقة، مع استيراد كميات حبوب أقل من قبل تلك البلدان، وتؤثر تكاليف الشحن وأسعار الصادرات المرتفعة على تصاعد التضخم المحلي في أسعار المواد الغذائية في أغلب بلدان العالم وقد سجل حجم الامدادات مزيداً من الانخفاض بينما تصاعد الطلب على الحبوب كغذاء وعلف للأغراض الصناعية، وأدى الارتفاع الكبير في أسعار النفط إلى زيادة أسعار المحاصيل الزراعية من خلال التكلفة الأعلى للمدخلات وتعزيز الطلب على المحاصيل المستخدمة في انتاج الوقود الحيوي. خطة من 3 محاور لقد أقر القائمون على أمر المنظمات الدولية خطة ترتكز على ثلاثة محاور للحد من أزمة الغذاء الحالية وارتفاع الأسعار الجنوني تتلخص في: | القيام باستثمار فوائض الأموال في القطاع الزراعي في منطقة الحزام العربي بصفة خاصة الدول الزراعية وعلى رأسها السودان الذي أقرت قمة روما بأنه مؤهل لأن يكون سلة غذاء العالم (130 مليون هكتار) صالحة للزراعة، و 140 مليون رأس من الماشية أي مقابل كل سوداني من السكان البالغ عددهم 35 مليون نسمة 4 رؤوس من المواشي إضافة إلى احتياطات المياه الجوفية الضخمة بجانب تركيا التي اعلنت عن حاجتها إلى 12مليار دولار لتطوير ملياري هكتار شرق الأناضول. | القيام بتبرعات عاجلة من الدول المانحة (755) مليون دولار لسد الاحتياجات الأساسية في برنامج الغذاء العالمي، وقد تبرعت المملكة العربية السعودية وحدها ب500مليون دولار في مايو الماضي ونالت عرفان وتقدير المجتمع الدولي. | أعلنت الأممالمتحدة عن حاجتها إلى 1.7مليار دولار لمساعدة المزارعين بالبذور قبل نهاية الموسم الزراعي والقيام بمساعدة الدول النامية على صعيد البنية التحتية كشبكات الري والطرق والمعرفة الزراعية الريفية وتحسين عوامل الانتاج. شراكات سعودية استراتيجية وفي اجتماع سابق لوزارء الزراعة العرب بتونس قرروا أن الوجهة العربية لتحقيق الأمن الغذائي العربي هي السودان، وقد انطلقت عقب قمة روما دعوة للمجموعة العربية للتدخل لإنهاء الصراع الدائر في السودان بهدف تحقيق مناخ مناسب للاستثمار الزراعي، وباعتباره يمثل الآن العمق الاستراتيجي للأمن العربي ولقد شكلت المملكة العربية السعودية رأس الرمح في هذه العملية على صعيد الواقع، فقد أورد تقرير صادر عن السفارة السودانية بالقاهرة أن المملكة العربية السعودية احتلت المركز الأول في قائمة الدول العربية المستثمرة بالسودان بمقدار 4.3 مليار دولار موزعة على 341 مشروعاً في مختلف القطاعات إضافة إلى 30 مشروعاً استثمارياً تم تخصيصها للمستثمرين السعوديين خلال الفترة القادمة لاستزراع 10 ملايين فدان، وأن 50% من الطلبات التي تتلقاها الحكومة السودانية اليوم هي من مستثمرين سعوديين وقد شهدت العلاقات بين البلدين على خطى تحقيق الأمن الغذائي العربي نقلة نوعية منذ توقيع أول اتفاق تجاري بين البلدين عام 1965م مروراً بتأسيس مجلس الأعمال السوداني عام 2002م وانتهاء بتوقيع الاتفاقية الاستراتيجية بين البلدين في 25 مايو 2008م، ويجري حالياً طرح 89 مليون فدان للمستثمرين السعوديين لزراعة القمح في الولايات السودانية الشمالية، وبلغت الصادرات السعودية للسودان 502 مليون دولار، بينما بلغت الواردات السودانية للمملكة أكثر من 78 مليون دولار وشهد عام 1972م أول مشروع بين البلدين هو مشروع الذهب المسمى بكنز البحر الأحمر بانتاجية 80 طن ذهب لتلبية حاجة السوق الخليجي وتم تأسيس شراكة ثلاثية بين المملكة والسودان ومصر لسد الفجوة الغذائية العربية في محصول القمح.