* كانت سمة الموسوعية العلمية والثقافية تطبع عددًا كبيرًا من جيل الروّاد من أمثال: عبدالقدوس الأنصاري، حمد الجاسر، محمد سعيد العامودي، أحمد عبدالغفور عطار، عبدالله بن خميس، أمين مدني، محمد العقيلي، عبدالكريم الجهيمان، محمد حسين زيدان، وغيرهم، وقليل من الأجيال اللاحقة وخصوصًا الأكاديميين منهم، كان بمقدورهم السير في أثر تلك المنظومة التي شقَّت طريقها بثبات وطموح كبيرين، وانعكس ذلك على ما تركه ذلك الجيل من إبداع في فنون مختلفة، ويأتي من الأسماء اللاحقة الآثاريّ والمؤرِّخ الدكتور عبدالرحمن الطيّب الأنصاري، والذي كانت بداية ارتباطه بهذا العلم هي جبل الرماة بالمدينة، حيث موقعة أحد الشهيرة، حيث بلغت يداه عمق تربة الجبل؛ لتخرج حاملة رمحًا تحوَّل إلى ذرات صغيرة بين يديه، لطول المدة الزمنية الفاصلة بين الحدثين والزمنين. * وإذا كان الشيخ العلاّمة عبدالقدوس الأنصاري قد استطاع بعزيمة صادقة أن يتجاوز كل العقبات، وينشر كتابه الأم «آثارالمدينةالمنورة» في الخمسينيات الهجرية من القرن المنصرم، وذلك على خلفية الموقف الرافض حينًا، والمشكّك حينًا آخر في أهمية الآثار، وضرورة الحفاظ عليها، وهو ما دأبت عليه جميع أمم الأرض، بل إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قاموا بحمل الرسالة الإسلامية السمحة والمعتدلة لشعوب الأرض، حرصوا على عدم التعرّض لآثار الأمم الأخرى، ممّا يعني ضمنًا أن الإسلام حافظ على آثار الأمم الأخرى، ولم تُصب منهم بسوء، حتى جاءت بآخرة الحركات المتطرّفة من أمثال: طالبان، وداعش، ومَن يشايعهما -جهرًا، وسرًّا- فحملوا الفؤوس، والمعاول في مشهد مقزّز، وبربريّ، ومتّسق مع مشهد جزّ رؤوس الأبرياء، والولغ في دمائهم، فهشَّموا كل الآثار التي وصلت أيديهم الآثمة إليها، ولم يتوانوا في الاتجار بما بقي منها، واحتسب أعداء أمتنا العربية والمسلمة تلك المواقف على الدِّين الإسلامي، متناسين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حثَّ على الاحتفاظ بآطام المدينة، وهي موجودة في المدينة قبل أن تصبح المدينة موئلاً للهجرة، ومنطلقًا لحضارة الوسطية، والاعتدال، والتسامح، والإقرار بحق الآخر في حياته، ضمن نسيج المجتمع المسلم. * ولعلّي أعود بعد هذه التوطئة الضرورية، والتي أردتُ من خلالها الإشادة بجهود الشيخ الأنصاري، ورفاقه في المسيرة الأدبية، والتاريخية، ولقد حمل الراية بعد ذلك الدكتور عبدالرحمن الأنصاري، والذي يُعدُّ والده الشيخ الطيّب الأنصاري أحد علماء السلف الصالح، من خلال حلقته في الحرم النبوي الشريف، والتي تلقى فيها العديد من الشخصيات العلمية والأدبية علومهم ومعارفهم، دينية كانت، أو أدبية، من أمثال السيدين عبيد وأمين مدني، وضياء الدين رجب، وعمر بري، ومحمد الحركان، وعلي وعثمان حافظ، وإبراهيم العياش، وأسعد طرابزوني، والشيخ عبدالقدوس نفسه الذي تربّى في منزل الشيخ الطيّب لصلة القربى بينهما. * أخذ العالِم عبدالرحمن الأنصاري مع مجموعة من طلابه الذين أضحوا أساتذة -بعد تخرّجهم في الجامعات الغربية- ويأتي في مقدمتهم الدكاترة، والزملاء الكرام: أحمد الزيلعي، وسعد الراشد، وعبدالله آدم نصيف، لقد أخذوا أنفسهم بمهمّة البحث عن الآثار التي تكتنزها أرض الجزيرة العربية، وتمّ اكتشاف قرية (الفاو)، حيث إنَّ الجزيرة العربية كانت مهدًا لحضارات قديمة، والبحث عنها سوف يلقي ضوءًا على التاريخ الغابر. ولم يكن الدكتور الأنصاري بعيدًا كذلك عن البحث التاريخي، فلقد شاركته قبل سنوات ندوة أقامها نادي المدينة الأدبي، وأدارها الزميل الكريم الدكتور محمد الصفراني، وتحدّث -شفاه الله- باستفاضة عن تاريخ المدينة القديم، مشكِّكًا في فرضية سكنى العماليق للمدينة، مخالفًا بذلك رأي الشيخ عبدالقدوس الذي دوّنه في كتابه المعروف (بين التاريخ والآثار). * يأتي تكريم سمو الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، وذلك بتخصيص جائزة باسم الدكتور الأنصاري، معبِّرًا عن مبادرة إنسانية، وسلوك حضاري نحتاجه في كل المجالات، حيث بذل جيل الأكاديميين كل ما يستطيعون؛ ليرفعوا بناء علميًّا شامخًا.. وهو تكريم رائع قوامه التقدير والاحترام لرموز وطنية فاعلة، تمثّل الثروة الحقيقية لأمة ساهمت في البناء الحضاري، والفكري، والثقافي في الماضي البعيد، وهي تنهض اليوم مدفوعة بذلك الحس الحضاري للمشاركة في الحاضر الذي نسعى من خلاله جادّين وصادقين لإثبات أننا أمة فاعلة بتراثها وتاريخها المجيد.