لعله من المفيد مع الحدث الهام لاختيار المدينةالمنورة عاصمة للثقافة الاسلامية لعام 2013م أن نشير إلى شيء من تاريخ المدينة الديني والحضاري والثقافي والفكري والأدبي للتدليل على ما اعطته هذه المدينة المباركة للإنسانية جمعاء من عطاء وبذل وهو موضع الاهتمام والتقدير لكل من يعرف شواهد التاريخ وقرائنه ودلائله. عُرفت المدينة في العصر الجاهلي قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها مدينة الشعر والأدب فلقد ذكر ابن سلام الجمحي وهو من أقدم نقّاد الأدب في تاريخ العربية بأن بيئة المدينة كانت الأوفر حظاً من الشاعرية بين البيئات الأخرى في الجزيرة العربية وهذا ما يكشف عنه قول الشاعر الجاهلي المعروف النابغة الذبياني عندما قدم إلى المدينةالمنورة ونبّهه الأنصار إلى عيب شعري في بعض قصائده فقال قولة مشهورة: «جئت المدينة أو يثرب وفي شعري هنة وخرجت منها وأنا أشعر الناس». وبعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها مثّلت المدينة منطلقًا هاماً لمفاهيم الدين الإسلامي الحنيف وخاطب منها الرسول صلى الله عليه وسلم أباطرة وأكاسرة العالم يدعوهم في تسامح ولين إلى اعتناق الدين الإسلامي الجديد ومن المدينة أنطلقت السرايا لنشر عقيدة التوحيد والإيمان وقد لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى تاركًا الناس على المحجة البيضاء واجتمع المهاجرون والأنصار في سقيفة بني ساعدة أول برلمان في العالم لينتخبوا خليفة لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدلّل على أهمية الشورى والرأي الآخر في الدين الإسلامي الحنيف. اشتهرت المدينة في القرون الأولى بما عُرف باسم مدرسة الفقهاء السبعة التي كان رائدها الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي عنه، وهذه المدرسة هي النواة الأولى لعلم الفقه وأصوله في جميع حواضر العالم العربي والإسلامي ثم جاءت مدرسة مالك بن أنس صاحب كتاب «الموطأ» ولقيمة هذا الكتاب وشهرته أراد الخليفة العباسي أبوجعفر المنصور أن يفرضه كمرجع فقهي للمسلمين جميعاً فرفض الإمام مالك ذلك ورأى فيه تعسفاً غير مقبول مستّدلاً بأن صحابة رسول الله تفرّقوا في الأمصار وأفتوا في كل بلد بما يناسبه وأحوال أهله. استمرت المدينة في أداء هذا الدور طوال الحقب والقرون ولعلنا نتوقف قليلًا عند حقبة القرن الحادي عشر الهجري حيث نشأت مدرسة الحديث والنص بريادة الشيخ إبراهيم بن حسن بن شهاب الدين الكردي الكوراني (1025-1103ه) وقد درس الكوراني بالمسجد النبوي الشريف وتلقّى العلم عنه عدد كبير من أبناء الأمة الإسلامية وعُرف عنه أنه من أصحاب السند العالي في علم الحديث الشريف ثم خلفه في أداء هذه المهمة الجليلة ابنه الشيخ محمد أبو الطاهر الكوراني المتوفى عام 1196ه وقد أخذ العلم عنه العالم الإصلاحي المعروف في شبة القارة الهندية الشيخ أحمد بن عبدالرحيم المعروف بشاه ولي الله دهلوي (1114-1176ه) والذي خلف كتاباً هامًا في مفهوم الاختلاف بين العلماء ودورهم في إثراء الفكر والعلم وهذا الكتاب هو «الإنصاف في مسائل الخلاف» ويروي الدهلوي عن الشيخ الكوراني وعن محدّث مكة المشهور سالم بن عبدالله البصري المتوفي 1134ه. ونتابع رحلة العلم في مدينة المصطفى فنجد شخصية علمية أخرى تبرز في حقبة القرن الثاني عشر الهجري وهذا العالم الحجّة هو الشيخ محمد بن حياة السندي ويذكر الدكتور عبدالله العثيمين أستاذ التاريخ المعروف شيئاً عن حياة هذا العالم الجليل فيقول: «أما محمد حياة السندي فكان حجّة في الحديث وعلومه وصاحب مؤلفات معروفة في هذا الحقل» وكان أستاذًا لعدد من الطلاب الذين أصبح بعضهم دعاة اصلاح أو شخصيات علمية مشهورة في مناطق إسلامية متعدّدة ويؤكد الدكتور العثيمين أثر الشيخين محمد حياة السندي وعبدالله بن سيف الشمري على الشيخ المصلح محمد بن عبدالوهاب رحمه الله لا بالنسبة للتحصيل العلمي فقط وإنما أيضًا باتجاهه الإصلاحي. وفي موازاة هذه المدرسة العلمية نشأت مدرسة أدبية في تلك الحقبة (الثاني عشر الهجري- الثامن عشر الميلادي) وكان رائدها هو الشاعر جعفر بن محمد البيتي المعروف (باعلوي السقاف المدني) (1110 -1180ه) فقد عُرف البيتي بمواهبة الشعرية المتعدّدة التي يدل عليها ديوانه المخطوط كما اشتغل البيتي أيضًا بصناعة النثر الأدبي ويدل على هذا المنحى كتابة الموسوم «مواسم الأدب وآثار العجم والعرب» ومن أهم القصائد التي تضمّنها ديوانه المخطوط تلك المطولات الشعرية التي تناولت الأحداث السياسية التي مرّت بها المدينةالمنورة في القرن الثاني عشر الهجري وللإفادة العلمية المحضة نشير إلى أن ديوان البيتي تُوجد منه نسخة مخطوطة في كل من مكتبة عارف حكمت والمكتبة العامة بالمدينةالمنورة (مجموعة السيد الصافي) ومكتبة طوبقبو سراي بتركيا ومكتبة المتحف العراقي ببغداد بالإضافة إلى نسخة خاصة بمكتبة السيد عبيد مدني كما توجد نسخة أخرى بمكتبة السادة آل هاشم بالمدينةالمنورة. ومع نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر الهجريين نشأت مدرسة أخرى تجمع بين علوم الشرعية وعلوم الأدب وكان رائدها الشيخ والفقيه والشاعر عبدالجليل بن عبدالسلام المعروف ببرادة (1240- 1327ه) وكان من روّاد هذه المدرسة أيضًا الشاعر والفقيه حسن بن إبراهيم الأسكوبي (1246 - 1331ه) وتأتي شهرة الأسكوبي في تلك الفترة من شعره التجديدي الذي وجّه فيه نقداً حاداً للدولة العثمانية وكذلك من شعره الذي ضمّنه وصف المخترعات الحديثة وبسبب هذه الانعطافة الجديدة على يد الاسكوبي آنذاك وجدنا أن الناقد الكبير المرحوم عبدالله عبدالجبار يرى أن شعر الاسكوبي (يمثّل الإرهاصات التي سبقت مولد أدب الحجاز الحديث خاصة وأدب الجزيرة عامة) ومن روّاد مدرسة البرادة الشاعر والفقيه المالكي محمد أحمد العمري الواسطي (1280-1365ه). وقد ترك العمري تراثاً شعرياً مخطوطًا من أهمّه تلك القصائد التي يحذّر فيها العرب من الركون إلى الوعود الغربية ومن أتباع هذه المدرسة أيضًا أنور مصطفى عشقي الذي وجّه نقداً حاداً للدولة العثمانية في إحدى قصائده وسُجن بسبب هذا النقد الحاد مع مجموعة من أهل المدينةالمنورة في الطائف ونستطيع القول أن منتدى عبدالجليل برادة المسمى (الابارية) يمثّل أولى المنتديات الأدبية في الجزيرة العربية. وكما عرفت المدينة بعض العلماء والمفكّرين الذين انفتحوا على الغرب ومن هؤلاء أمين بن حسن الحلواني المدني المتوفي سنة 1316ه/ 1886م ولقد ارتبط الحلواني بعلاقة خاصة مع المستشرق السويدي كارلو لاندرج وأدّى هذا الارتباط إلى تشجيع الحلواني للسفر إلى ليدن سنة 1301ه/ 1883م وكان بصحبة الحلواني الذي حضر مؤتمر المستشرقين بليدن مجموعة من المخطوطات يبلغ عددها 646 مخطوطة وابتاعتها منه مكتبة ليدن ووضعت لها فهرساً خاصاً باللغة الفرنسية وقد قمت بترجمة هذا الفهرس من الفرنسية إلى الإنجليزية وقام مركز دراسات المدينة بترجمته للعربية ونشره على حلقات في مجلة المركز. في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري قصد المدينة أيضاً عدد من المصلحين والمفكرين الذين درسوا في حلقات العلم في المسجد النبوي الشريف من هؤلاء الأمير شكيب أرسلان، وعبدالحليم بن باديس، والبشير الابراهيمي.. كما شهدت هذه الفترة تأسيس مؤسّسة علمية هامة وهي مدرسة دار العلوم الشرعية في المدينةالمنورة التي أسّسها السّيد أحمد الفيض أبادي ودرس فيها الشيخ أبو الطيب الأنصاري والد عالم الآثار المعروف الدكتور عبدالرحمن الأنصاري وفي حلقة الشيخ الأنصاري بالمسجد النبوي الشريف تلقّى جيل من أبناء المدينةالمنورة ممن ساهموا فيما بعد في النهضة العلمية والفكرية في بلادنا ويأتي في مقدمتهم الأساتذة والمشائخ عبيد وأمين مدني وعلي وعثمان حافظ ومحمد الحركان وعبدالقدوس الأنصاري وضياء الدين رجب وإبراهيم العياشي وأسعد طرابزوني وعبدالسلام هاشم حافظ كما درس عدد آخر على يد الشيخ عبدالقادر الشلبي من أمثال محمد حسين زيدان، وأحمد عبيد، وفي حلقة الشيخ أمين الطرابلسي درس الأستاذ الأديب محمد عمر توفيق وفي هذه الفترة شهدت المدينةالمنورة نشوء ناديين أدبيين هما نادي المحاضرات ونادي الحفل الأدبي وعن هذين الناديين انبثقت فكرة إنشاء مجلة «المنهل» على يد مؤسّسها الشيخ العلامة عبدالقدوس الأنصاري سنة 1355ه وصحيفة المدينةالمنورة على يد السيّدين علي وعثمان حافظ سنة 1356ه ولقد ورث هذه الأندية الأدبية فيما بعد المنتدى الأدبي الذي عُرف باسم أسرة الوادي المبارك وكان من روّاده عدد كبير من الأدباء والنّقاد والمثقفين من أمثال الأساتذة محمد سعيد دفتردار، وعبدالعزيز الربيع، ومحمد حميدة، وحسن الصيرفي، ومحمد العامر الرميح، وعبدالرحمن الشبل، وعبدالرحمن رفه، وماجد الحسيني، وعبدالرحيم أبو بكر، ومحمد العيد الخطراوي، ومحمد كامل خجا، وعبدالسلام هاشم حافظ. وقد ساهم هؤلاء بنصيب وافر بالنهضة الأدبية الحديثة في بلادنا العزيزة. وبمناسبة هذا الحدث الهام فإنني أتوجّه إلى سمو أمير منطقة المدينة سمو الأمير عبدالعزيز بن ماجد الذي أعرف اهتمامه بالبلدة الطاهرة وانشغاله بكل ما يتّصل بتاريخها وفكرها وأدبها أتوجّه إليه وإلى الصديقين الكريمين معالي الدكتور منصور النزهة ومعالي الدكتور محمد العقلا بالقيام بإصدار سلسلة عن تاريخ المدينة وآثارها التي أُهمل كثير منها في الحقبة الماضية وفكرها وأدبها أسوةً بما قامت به مؤسسة دار الفرقان برعاية معالي السيد أحمد زكي يماني عن مكةالمكرمة كما أتّطلع من الصديق معالي الدكتور فهد السماري أمين عام دارة الملك عبدالعزيز المهتمة بتاريخ الجزيرة العربية وخاصةً المدينتين المقدّستين (مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة) بإصدار فهارس عن مكتبات المدينة التي تحتوي على نوادر المخطوطات في جميع العلوم والمعارف مثل مكتبة عارف حكمت ومكتبة المحمودية والمكتبة العامة ومكتبة الملك عبدالعزيز والمكتبات الأخرى الخاصة مثل مكتبة آل مظهر الفاروقي ومكتبة آل البساطي ومكتبة آل هاشم ومكتبة آل فقيه ومكتبة آل المدني والتي جمع لها الرائد الأديب السيّد عبيد بن عبدالله مدني نوادر المخطوطات والكتب من جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي والغربي وساهم رحمه الله من خلال موقعه في إدارة الأوقاف بالمدينة ومن بعده خلفه الشيخ جعفر فقيه في الاهتمام بجمع المكتبات الخاصة التي كانت موجودة في الأربطة والمدارس ودمجها ضمن مكتبة المدينةالمنورة العامة. كما أتّطلع من نادي المدينةالمنورة الأدبي ممثّلاً في شخصية الصديق الأستاذ الدكتور عبدالله عسيلان ونائبه الابن الأستاذ الأديب محمد بن إبراهيم الدبيسي وبقية أعضاء النادي في إخراج بعض الكتب المخطوطة في تاريخ المدينة الفكري والأدبي وهو تتويج لما قام به النادي على مدى ربع قرن في خدمة الثقافة والأدب في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم سائلاً الله أن يوفّق المسؤولين في كل القطاعات للاستشعار بالمهمة الملقاة على عاتقهم في إبراز تراث المدينةالمنورة والاهتمام به لأن الاهتمام بتاريخ المدينة وآثارها مما حضّت عليه مقاصد الشرع الحنيف وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. * أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك عبدالعزيز والباحث في تاريخ المدينة المنورة