الأستاذ الاديب، الصحفي النابه، العالم المحقق المدقق، الأثري المؤرخ، اللغوي المجمعي، الأستاذ عبدالقدوس بن القاسم بن محمد بن محمد الانصاري الخزرجي. ولد في المدينةالمنورة على سكانها افضل الصلاة وازكى التسليم.. كان مولده في عام 1324ه... توفي والداه ولم يتجاوز السادسة من عمره.. كفله عمه وشيخه العلامة الشيخ محمد الطيب الانصاري، عالم المدينةالمنورة، وهو والد الأستاذ الدكتور عبدالرحمن الانصاري. تلقى علومه الدينية واللغوية والتربوية على يد شيخه وأستاذه العلامة محمد الطيب الانصاري في المسجد النبوي الشريف، حيث كان بداية خطوة نحو المجد.. وانعم بها من بداية.. بل انها بداية الخير والفأل الحسن في جوار الرسول الاعظم سيد ولد آدم اجمعين، عليه وعلى آله وصحابته افضل الصلاة وازكى التسليم. بدأ الدراسة وعمره لم يتجاوز الخمس سنين، وفيها حفظ القرآن الكريم، واعقبه بحفظ المتون في علوم التفسير والحديث والفقه واللغة. في عام 1341ه افتتحت مدرسة العلوم الشرعية في المدينةالمنورة، وقد انشأها فضيلة السيد احمد الفيض آبادي لتيسير التعلميم الديني والعربي، وقد عين الشيخ محمد الطيب الانصاري رئيساً لمدرسيها.. وبطبيعة الحال التحق بها (عبدالقدوس الانصاري)، وتخرج فيها في عام 1346ه بتفوق وامتياز.. يقول الانصاري في ذكرياته لتلك الفترة: (وكنت اول الطلاب في اخذ علامات النجاح العليا) ص 632/ عدد شوال وذو القعدة 1401ه.. وكان ان حضر الاختبار العمومي الذي اجرى لطلاب المدرسة، رئيس ديوان امارة المدينةالمنورة الشيخ اسماعيل حفظي، وكان ان اعجب بالأداء المتفوق للشاب النابة (عبدالقدوس الانصاري) فأشار على وكيل الامارة بأن يلحقه بديوان الامارة، وابلغ الانصاري بهذه الرغبة، حينئذ استشار الانصاري شيخه وأستاذه الشيخ محمد الطيب الانصاري - وهذا من عظيم ادب البنوة للأبوة - ويصف الانصاري ذلك بقوله: (.. وثاني يوم بعد نجاحي في الاختبار الشاق العنيف، كنت جالساً على مكتبي في ديوان امارة المدينةالمنورة موظفاً صغيراً بها.. اصغر من جميع الموظفين به.. كان ذلك في غرة شهر رمضان 1346ه). ليس هذا فحسب، بل بعد تخرجه من مدرسة العلوم الشرعية رغب اليه السيد احمد الفيض آبادي مؤسس وصاحب المدرسة ان يكون أستاذاً للادب العربي فيها.. وحقق رغبة أستاذه وظل أستاذاً فيها زهاء اثني عشر عاماً.. هذا اضافة لاعماله الأخرى. مكثف الانصاري في الديوان الملكي يتقلب في وظائفه حتى عام 1359ه، حيث نقل بعد ذلك الى مكةالمكرمة في وظيفة رئاسة تحرير الجريدة الرسمية (أم القرى) وتم ذلك بإرادة ملكية - برقية - صدرت من الملك عبدالعزيز - عليه رحمة الله تعالى - الى امارة المدينةالمنورة. واستمر في وظيفته تلك حتى عام 1361ه، حيث صدر امرسمو الأمير فيصل ولي العهد آنئذ بنقل الأستاذ عبدالقدوس الانصاري ليعمل في ديوان سموه في جدة.. وبقي فيه حتى عام 1386ه حيث تفرغ بعد ذلك تفرغاً كاملاً لمجلته المنهل التي انشأها في عام 1355ه/1937م وظل يصدرها باستمرار رغم كل تلك المشاغل والوظائف والمهام. ورغم كل تلك التنقلات.. من المدين المنورة الى مكةالمكرمة الى جدة.. ينتقل بها حيث ما انتقل. هذا مختصر ميسر للحياة الوظيفية للانصاري - عليه رحم الله تعالى - لم نرد البسط فيها، فقد كان أداؤه فيها كبيراً وملحوظاً، وهذه الصفحات لا تكفي.. اذن، لنبسط الحديث بسطاً ميسراً ايضاً في حيواته الفكرية والثقافية والادبية والعلمية. ٭٭ عبدالقدوس الانصاري كان طموحاً متصاعد الطموح، وكان صاحب منهج في الحياة والمجتمع الزم به نفسه.. وهو طالب في مدرسة العلوم الشرعية، كان همه اكبر بكثير من هذا الفصل الدراسي، كان يفكر في ترقية الحياة الادبية والفكرية لبني قومه في المدينةالمنورة، وهذا ما تؤكده لنا مجموعة مقالاته التي كتبها في وقت مبكر من حياته، وتؤكده ايضاً انشطته الثقافية والادبية التي كان يقوم بها، من عقد الندوات واللقاءات، ثم انشأ اول نادٍ أدبي في المدينةالمنورة، كان مشغولاً بتصحيح الاخطاء اللغوية التي حدثت بمزاحمة اللغة التركية للغة العربية، كان همه ومبتغاه ان يحقق آثار المدينةالمنورة، مدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومدينة اصحابه. كل هذا، كان يشغل بال وفكر الانصاري وهو لا يزال على مقعد الدرس في مدرسة العلوم الشرعية.. إذن، لم يكن همه ومبتغاه ان يجمع اليه العلم من اطرافه، فحسب، بل كان همه أيضاً ان يفيد مجتمعه من هذا العلم، ولقد بذل من الجهد وسعه لتحقيق هذه الغايات النبيلة. إذن، لنقرأ ما كتبه الانصاري في (قصة حياتي) لنقف على المجاهدات العلمية والادبية والاجتماعية لهذا الشاب المتصاعد في طموحه، وهو لا يزال في مقاعد الدرس. يقول الانصاري (.. اثناء الدراسة كنت لاحظت ان ما كان سائداً من ألوان الانشاء هو لون الانشاء القديم المسجع الركيك.. فضايقني ذلك في نفسي وصرت ابحث عن منفذ جديد، واتفق ان وردت الينا كتب المنفلوطي: العبرات والنظرات وغيرها، كما وردت الينا في ذلك الوقت بعض الصحف المصرية الأدبية، البلاغ الاسبوعي، الهلال، المقتطف، الشرق الأدنى، المرشد العربي.. فأثرت هذه على اتجاهاتي، وصرت التهمها التهاماً واعنى بمسايرة اسلوبها انفكاكا من اسلوب الانشاء المسجع الركيك الذي كنا نتلقاه من معلم الخط، وهكذا بدأت ارسم خطي الحديث، جاعلاً من مطالعاتي أستاذي الخاص». ملحق العدد الصادر في ذي القعدة وذي الحجة 1403ه.. ص 15/16/قصة حياتي. وهذه الجملة الأخيرة (جاعلاً من مطالعاتي أستاذي الخاص).. تشير الى الهم الفكري والثقافي الذي كان يعايشه الانصاري، ويبحث جاهداً لتجديده. وهذا اول معالم التجديد عنده. والانصاري لا يعيش لنفسه، بل يعيش ومعه قومه وامته، لا يعمل على نهوضه هو فحسب، بل يسعى لان ينهض بقومه، فكراً وثقافة وادباً، واسلوب حياة، وهذا قدره وقدر الرواد من امثاله. ويتأكد لنا هذا التوجه عند الانصاري بقراء هذه الفقرة حيث يقول «.. فعكفنا نحن الاثنين - الانصاري وصديقه السيد عبيد مدني - عليهما رحمة الله تعالى - على هذا الاتجاه، وسعينا ننشر الاسلوب الحديث الذي نزاوله في الناشئة في المدينةالمنورة. وقد بدأ الخطوة الاولى للحركة الادبية في المدينةالمنورة بتوجيه الاستفتاءات الادبية الحديثة المحركة للنشاط الفكري، وكانت اول حركة يقظة ادبية حديثة سنة 1341ه» المصدر السابق نفسه ص 16. اي ان هذا النشاط الطموح بدأ قبل تخرجه بخمس سنوات، اذ كان تخرجه في مدرسة العلوم الشرعية عام 1346ه اي ان الانصاري كان عمره آنئذ (سبعة عشر عاماً).. شاب في الساعة عشرة من عمره يحمل هذا الهم الثقافي الفكري، في بيئة لا يوجد فيها - آنئذ - ما يساعد على هذا النشاط. ويتصاعد الطموح عند الانصاري، وتترسخ في اعماقه فضيلة العمل، كسباً معرفياً وعلمياً وفكرياً لنفسه، وافادة لقومه وناسه، نهضة وارتقاء في سلم المجد. ويسجل في وعي تام تلك الخطى، اذ يقول: «وفي سنة 1345ه بدأت المحاولة تعطي ثمارها، فبدأت الأماني الحالمة البعيدة المدى والتحقيق تطرق ادمغتنا بإنشاء صحف ومجلات تنشر ادبنا وافكارنا، وبدأنا ننشد عالماً ادبياً افضل» نفس ص 16. اذ كان الطور الاول هو طور القراءة والاطلاع، فإن الطور الثاني هو (انشاء صحف ومجلات).. كل هذا والانصاري لا يزال في مقاعد الدرس لم يغادرها، ولكنه كان يتصاعد آمالاً عريضة وطموحاً لا تحده الحدود. وبنمو الحركة الثقافية والفكرية بصورة اوسع في المدينةالمنورة فإنه بجهد الانصاري وزملائه، انشئ اول ناد ادبي في المدينةالمنورة. وفي هذا يقول عبدالقدوس الانصاري «في سنة 1355ه اقام راقم هذه السطور مع زملائه بالمدينةالمنورة نادياً ادبياً لتفتيح الاذهان وترقية مستوى البيان العربي واصلاح المجتمع وسموه، باسم لم يسبق له مثيل، من ناحية ادخاله صيغة «السعودي» فيه والاسم هو (نادي الحفل الادبي للشباب العربي السعودي المتعلم) بالمدينةالمنورة». (مجلة المنهل العدد الصادر لشهري المحرم وصفر 1405ه ص 75/ موضوع (حياتي) بقلم عبدالقدوس الانصاري. ونلحظ هنا بوضوح ان اهداف انشاء وتأسيس هذا النادي كانت واضحة المعالم في ذهن الأستاذ الشاب عبدالقدوس الانصاري وهي (تفتيح الاذهان - ترقية مستوى البيان العربي - واصلاح المجتمع).. وهذه الاهداف في كل ابعادها كانت تمثل طرفاً من (المشروع الحضاري) الكبير الذي كان يتقد به ذهن الانصاري، والانصاري جعل من مجلته المنهل التي اسسها في 1355ه، الميدان الارحب لاظهار هذا المشروع الحضاري الكبير. في عام 1346ه، نشر الانصاري اول مقال له في مجلة الشرق الادنى التي كان يصدرها الأستاذ أمين سعيد بمصر وكان موضوع المقال جريئاً بالنسبة لظروف ذلك العهد. يقول الانصاري: (كان الموضوع - بماذا ينهض العرب - وقد ابديت رأيي في ان نهضة العرب مرتبطة بوحدتهم، ووحدتهم مرتبطة بوجود زعيم عربي يوقظ النائمين ويتقدم سير القافلة إلى قمم الوحدة المنشودة، واحدث المقال دوياً، وقد اعجبت بالمقال كما يعجب المرء بأول وليد (ص 16 قصة حياتي/المرفقة في آخر عدد ذي القعدة وذي الحجة 1403ه). وحق له ان يعجب بما كتب..شاب في الثانية والعشرين من عمره يكتب عن نهضة العرب، وشروط النهضة المبتغاة.. لا نقول إنه الشاب الوحيد في العالم العربي الذي يحمل هذا الهم، لكنه بالتأكيد واحد من مجموع تلك الصفوة، على قلتهم. سبق أن ذكرنا أن الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري قد عين موظفاً في ديوان امارة المدينةالمنورة بعد تخرجه من مدرسة العلوم الشرعية بيوم واحد،وجاء قرار توظيفه بتوجيه من أمير المدينةالمنورة آنذاك، وكان أصغر موظف في ديوان الامارة. (وكان يعني باصلاح الكلمات المغلوطة في الرسائل الرسمية التي تصدر من ديوان الامارة آنذاك) ص 58/مجلة المنهل/عدد المحرم وصفر 1405ه. ترى هل كان أمر الاصلاحات اللغوية بالنسبة له سهلاً ميسوراً، في وقت شاعت فيه الامية وغلب عليه الجهل، لقد كانت اصلاحات الانصاري اللغوية مكان استهزاء زملائه، وموضع تندرهم، ذلك لأنهم عهدوا الأمر عندهم هكذا، فكيف يأتي شاب في العقد الثاني من عمره ليغير ما عهده الناس في كتابه رسائلهم. ولكن الشاب الطموح الانصاري صاحب رسالة وصاحب الرسالة لا توقفه العثرات.. ويسجل الأنصاري بقلمه مدى المعاناة التي وجدها في هذا السبيل الذي اختطه. يقول في موضوع (حياتي): «.. وقد قاوم بجهده هذا التيار الفاسد، وما بالى بالعنت والسخرية، اللذين ينصبان عليه من كل صوب وحدب، من الموظفين الزملاء وغير الزملاء» ص 58 -59/مجلة المنهل عدد المحرم وصفر 1405ه. ويعلل ذلك بقوله: (وأعمال الاصلاح دائماً تلاقي معارضات شتى، وتتطلب قياماً واستمراراً، وشجاعة كافية لمقابلة الحملات المتعاقبة) نفسه ص 59. في شهر ذي الحجة من العام 1355ه/1937م أصدر الأستاذ عبدالقدوس الانصاري أول عدد من مجلته (المنهل) وتوالى اصدارها في غرة كل شهر بدون انقطاع، إلا في سنى الحرب الكونية الثانية، بسبب ارتفاع سعر ورق طباعة الصحف والمجلات، ثم عاودت الاصدار، واستمر هو بصحبتها وهي بصحبته حتى تاريخ وفاته في جمادى 1403ه.. حيث حمل الراية من بعده ابنه الاستاذ نبيه الانصاري حتى وفاته في صفر 1424ه. - رحمه الله وأحسن إليه.. وتظل راية المنهل مرفوعة بتوفيق الله تعالى على يد الحفيد الأستاذ زهير الانصاري - أمد الله في عمره، وأدام توفيقه. ولكن.. إنشاء وتأسيس مجلة في ذلك الوقت - منتصف القرن الرابع عشر الهجري، لم يكن بالأمر الميسور ولا الهين. يقول الأستاذ عبدالقدوس الانصاري مسجلاً تلك البدايات. «في عام 1348ه اتضحت لدي سبل اصدار مجلة علمية تدفع عن العروبة والإسلام التيارات الجارفة إذ ذاك من الاندفاع نحو التغرب في كل شيء.. وتجدد شباب الأدب العربي في هذه البلاد.. فقدمت طلباً بذلك إلى إمارة المدينةالمنورة، وكان الاسم الذي وقع عليه اختياري هو (المنهل) ورفع الطلب الى جلالة الملك عبدالعزيز.. وفي ذي القعدة 1355ه/1937م صدر الأمر الملكي بالموافقة على اصدار مجلة المنهل، وصدر صك شرعي بالاذن لي باصدار (مجلة المنهل). وصدر أول عدد من المنهل في ذي الحجة 1355ه، - أي بعد شهر واحد من صدور الأمر الملكي - ولم يكن معي سوى أربعين ريالاً سعودياً وقت اصداره دفعتها كلها للمطبعة وبقي علي عشرون ريالاً. ولكني لم أيأس فدفعت بمواد العدد الثاني، عدد المحرم 1356ه إلى المطبعة فصدر ايضاً، ثم رأيت نقل طبع المجلة الى مكةالمكرمة فطبع بها العدد الثالث، وهكذا توالى صدورها من ذلك الوقت» ص 16/17 ملحق عدد ذي الحجة 1403ه. ويؤكد الانصاري هذه الريادة الصحفية بقوله: «مجلة المنهل كانت الطليعة الأولى لصدور المجلات الادبية في المملكة العربية السعودية» ص 53 (حياتي) عدد المحرم وصفر 1405ه. قامت المنهل على منهجية واضحة في ذهن مؤسسها وصاحبها الأستاذ عبدالقدوس الانصاري، وهي تمثل شخصيته في كل توجهاتها، الروحية والتربوية والسلوكية، الانسانية والاجتماعية، العلمية والادبية والثقافية، الوطنية والقومية والاسلامية.. بل تمثل توجهه النازع ابداً الى التوثيق والتدقيق في بحوثه ودراساته اللغوية والتاريخية والاثرية. والمتصفح لمجلة المنهل منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا يستبين ما ذهبنا إليه، ويتحقق من أن المنهل تمثل حقاً شخصية مؤسسها الرائد.. ولا تزال مجلة المنهل وفية مخلصة لكل قضايا العلم والثقافة، والادب والفكر، وقضايا الوطن والامة العربية والاسلامية. وتحت عنوان لمحات من تاريخ المنهل يقول الانصاري: «ولقد صدر المنهل في منتصف العقد السادس من القرن الهجري الرابع عشر وكان الاستعمار الاوروبي يومئذ في عنفوانه جاثماً بكلاكله على اكثر ربوع العرب والمسلمين، نافثاً سموم دعاياته، ناصباً احابيله في كل الاوساط المثقفة وغير المثقفة مضللاً نفراً من تلاميذه الاوفياء الذين وباهم ومريديهم السذج عن الصراط السوي جاعلاً نصب عينيه الدعوة الى: 1- لهجة عامية متفرقة ومفرقة. 2- والى قلب الحروف العربية لاتينية. 3- والى تليين قناة الشعر العربي وتحويله الى قالب لاتيني المعنى عربي الشكل، إمعاناً في الكيد للعروبة والإسلام. 4- تحييد الثقافة العربية الاصيلة، وجعل الثقافة الغربية الدخيلة ثقافة اصيلة لسائر اوطان العرب والاسلام. 5- إبطال قواعد اللغة العربية - (نفس المصدر السابق ص9). ويقول: «ان الدعوة الى هذه الامور الفتاكة بمقوماتها على أمة لها حضارة عظيمة وتاريخ عريق كانت سائدة يومذاك بشكل شامل، وقد تصدى لها نفر من نبهاء العرب، وفطناء المسلمين بالنقض والدحض».. وقد اختمرت هذه الحركة الدفاعية في فكر صاحب هذه المجلة وهو يافع وآمن بها إيماناً كاملاً، فقرر أن تصدر هذه المجلة لتكون من جنود المقاومة لعوامل الهدم التي كانت مسلطة لهدم كياننا من جذوره». في مقال له بعنوان (مجلة أدبية هادفة) نشر في عدد شعبان 1385ه/1965م، ركز الأستاذ عبدالقدوس الانصاري على الاعتبارية المنهجية التي قامت عليها مجلة المنهل، والتي ظلت مسيرتها عليها لم تحد عنها. وهذا المقال يشكل التنفيذ الفعلي والحقيقي لما اختاره الانصاري منهجاً لمجلته المنهل، وهو من جانب آخر يمثل المنهجية التي ينبغي اتباعها في الصحافة الملتزمة. يقول في هذا المقال: «أنشئت هذه المجلة واتخذت من يومها مبدأ لها، العناية بشؤون الفكر والادب والمجتمع، موضوعياً لا شخصياً، وأعنى بشؤون الفكر والادب والمجتمع هنا ما يشمل تاريخ هذه البلاد في علمها وعلمائها، وفي فنونها وآدابها وفي آثارها واوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والصحية والرياضية. وقد صدفت صدوفاً كلياً - عمداً وقصداً - عن سبيل المهاترات والتنابز بالألقاب التي كان أمرها مستفحلاً منذ صدورها، وتمكنت من ضبط اعصابها ازاء المغريات والدوافع المتضافرة، ولم يكن الوعي عميقاً ولا شاملاً ولا كان القراء بهذه الكثرة اليوم.. ومع ذلك ضحت المجلة بمصالحها المادية حيال انجاح مصالحها الفكرية والادبية، فلم تنجرف في تيار المهاترات. وذلك بالرغم من انتشار الفكرة القائلة بأن الأدب والصحف لا يرتقيان ولا يروجان إلا على أشلاء ضحايا المهاترات والتنابز بالألقاب والاحساب والانساب». «كانت معركة فكرية عارمة بين مجلة المنهل والجو الذي تتنفس فيه حينذاك، وانها طالما قررت في افتتاحياتها تلازم أدب النفس مع أدب الدرس، وأنه لا يفيد أدب درسي مهاتر لمجتمع معاصر يريد رفع مستواه ونشل كيانه من هوات الانحلال والتأخر. واخيراً.. انجلى غبار المعركة، وقد ادرك الناس أن خطة المنهل الموضوعية في النقد والأدب والفكر هي الخطة القويمة السليمة التي من دأبها أن ترفع مستوى الأدب والفكر في البلاد.. أدركوا ذلك من طول ما شبعوا من الكلام الذي يورث الاحقاد ويؤرث العداوات ولا يجدي فتيلاً للنهوض بأدب وفكر ومجتمع. «وكان ادراك الناس لسلامة هذا المنطق نصراً مؤزراً للمنهل نفسه في خطته الادبية العلمية السلمية تجاه الخطة التنابزية السلبية». «ولا غرو، فالمنهل إنما أخذ اسمه في الأصل من منهل الماء الزلال.. الذي يروي الضمآن وينظف الاقذار ويصفي الاكدار ويلطف الجو ويهيئ القراء لحركة ايجابية بناءة لا يضعضعها غرض ولا عرض ولا مرض». ولتحقيق هذه الغايات النبيلة، يؤكد الانصاري في مقدمته للعدد الأول الصادر في ذي الحجة 1355ه، «سنبذل قصارى الجهد في سبيل احاطة هذا المنهل بسياج متين من اسباب الوقاية حتى لا يتلوث معينه، ولا يتعكر صفوه بجراثيم التراشق والاسفاف، شاعرين بأن التطور من سنن الكائنات» ص4/المقدمة. الانصاري، جعل من مجلته المنهل ميداناً فسيحاً للكلمة البانية والموضوع الجاد، التقى على صفحاتها الكثير من أقلام العالم العربي والإسلامي. انشغل الانصاري بقضايا وطنه، وتفاعل معها، وسجلها دقيقها وكبيرها، وكانت له أولياته التي حفظت له حق السبق المبكر بالدعوة الجادة للأخذ باسباب النهضة والتقدم في كل انحاء الحياة، فقد دعا لتأسيس وإنشاء الكليات والجامعات، والصناعات والزراعة والتعليم. وغيرها من أسباب التقدم والنهضة. وامتاز الانصاري بالمتابعة الدقيقة الحصيفة لتحقيق مقترحاته.. راجع مجلة المنهل العدد 581 مقال بعنوان: (الانصاري ودوره في حركة التنمية والنهضة في المملكة العربية السعودية.. المقال لراقم هذه الاسطر. والانصاري انفعل - كذلك - وتفاعل مع القضايا المصيرية للوطن العربي الكبير، وقضايا الأمة الإسلامية.. ودراساته ومقالاته، واستفتاءاته، المنشورة في مجلته المنهل تشهد له بذلك. الأستاذ عبدالقدوس الانصاري، كان صحفياً بارعاً ومبدعاً.. الموضوع الغليظ الجاد الموغل في جديته، نجد الانصاري يذلل صهوته، ويلين قياده بقلم الأديب المبدع طيع الكلمة. فيسوقه اليك سوقاً ميسوراً، تطالعه في حميمية من لا يود مفارقته، ويتضح هذا بخاصة في كتاباته في الآثار والرحلات. ٭٭ هذه كلمة تعريفية مختصرة جاءت بمناسبتها.. لهذا الرائد العملاق، عبدالقدوس الانصاري - عليه رحمة الله تعالى - ودراساته وبحوثه ومقالاته المنشورة في مجلة المنهل فقط، تحتاج دراسات متعمقة من دارسين متعمقين.. لاسيما أن كتاباته قد غطت الكثير من مجالات الدراسة والبحث. ٭ تحرير مجلة المنهل