إنَّ كل حكمٍ دستوريٍّ يقبل الاجتهاد يقبل التعديل؛ وكل حكمٍ دستوري لا يقبل الاجتهاد لا يقبل التعديل أشرت فيما مضى إلى تقسيم صياغة الدستور إلى قسمين: قسم الأحكام الدستورية المتعينة الثابتة التي لا تقبل التعديل، وإنما يصاغ في الدستور وجوب وتعيّن التزامها؛ وقسم الأحكام الدستورية الاجتهادية التي تتغير فيها الفتوى الشرعية بتغير المناط لتغير الأحوال .. وهذا التقسيم محكوم بالمُسَلَّمَة العَقَدية التشريعية المعلومة من دين الإسلام بالضرورة باتفاق أهل الإسلام، ألا وهي: تعيّن السيادة للشريعة الإسلامية.. وفي إطار هذه المسلمة العقدية التشريعية، بحث فقهاء الدستور الإسلامي من المعاصرين صياغة دستور إسلامي تفريعي على النمط العصري للدساتير المدونة، وذلك تحت مسألة: تدوين الدستور الإسلامي؛ كما بحثوا تحت مسألة تدوين الدستور، مسألةَ : تعديل الدستور الإسلامي في المسائل الفرعية الاجتهادية.. فأمَّا مسألة: تدوين الدستور الإسلامي، فقد مضى الحديث عنها، ومضى ذكر بعض جهود مجامع علماء الشريعة وأساتذة القانون من الشرعيين وأفرادهم، في تدوين دستور إسلامي، وفي تدوين إعلان دستوري إسلامي، والحديث في تفاصيلها يطول؛ وعلى كل حالٍ فلم أقف على رأي لعالم شرعي عارض فيه تدوين دستور إسلامي حقيقي يخضع لأحكام الشريعة الإسلامية، ويتقيد بسيادة الشريعة ويلتزم بمرجعيتها في كل مواده وما يتفرع عنها؛ وغاية ما هنالك أن بعض العلماء وأساتذة القانون من الشرعيين، قد لا يرتضي إدراج مسائل معينة في الدستور، أو يرى إضافة قيود معينة، أو يتحفظ على عبارات معينة، ونحو ذلك؛ وذلك كلّه بناء على مدى تحقق شرط الالتزام بأحكام الشريعة لديه، في صياغة دستور أو مشروع دستور بعينه.. ولذلك لا أعلم خلافا بين علماء الشريعة وأساتذة القانون من الشرعيين، في وجوب النص على مرجعية الشريعة وسيادتها على كل السلطات، والالتزام بمقتضاها وعدم مخالفتها في جميع مواد الدستور؛ وقد سبق بيان اتجاهاتهم في التزام ذلك على سبيل الإجمال.. وأمَّا مسألة: تعديل الدستور التفصيلي التطبيقي، فلعل من أوائل من فصّل في ذلك تفصيلا حسنا، الشيخ الأستاذ د. منير البياتي حفظه الله.. فقد قال قبل أكثر من ثلاثة عقود: "لا سبيل إلى تعديل الأحكام الدستورية الثابتة في الكتاب والسنّة دون اجتهاد [أي فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد]؛ لأن ذلك كما بيّنا لا يكون إلا بوحي، ولا وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما الأحكام الدستورية الصادرة عن اجتهاد [شرعي] وثبتت في الدستور، فإن بالإمكان أن يتناولها التعديل". ثم بيّن حفظه الله معيار ذلك بقوله: "وبإمكاننا أن نضع معيارًا ضابطا لذلك أو قاعدة، فنقول : إنَّ كل حكمٍ دستوريٍّ يقبل الاجتهاد يقبل التعديل؛ وكل حكمٍ دستوري لا يقبل الاجتهاد لا يقبل التعديل"؛ ثمّ وصّف الأحكام التي لا تقبل التعديل، تأسيسا على التقعيد السابق بقوله : "وتأسيسا على هذه القاعدة تكون الأحكام الدستورية التي لا تقبل التعديل هي : 1) الأحكام الدستورية التي مصدرها القرآن الكريم، إذا كان دليلها قطعيًا في دلالته على معناه. 2) الأحكام الدستورية التي مصدرها السنة المتواترة والمشهورة والآحاد الثابت صحتها، إذا كان دليلها قطعيًا في الدلالة على المعنى. 3) الأحكام الدستورية التي مصدرها "الإجماع". ثمّ وصّف الأحكام الدستورية المدونة على الطريقة العصرية، التي تقبل التعديل، بقوله: "أمَّا الأحكام الدستورية الواردة في الدستور الإسلامي وتقبل التعديل، فهي: 1) الأحكام الدستورية التي مصدرها القرآن الكريم إذا كان دليلها ظنيًا في دلالته على معناه، إذ يمكن حملها على المعنى الثاني للنص على أساس الاجتهاد في تفهم المراد من النصّ؛ ويكون هذا الحمل على المعنى الثاني بمثابة تعديل للحكم السابق المبني على المعنى الأول للنصّ؛ على أن يكون هنالك دليل يرجح المصير إلى المعنى الثاني للنصّ والإتيان بحكم [معدِّل] جديد [بالنسبة للدستور المعدَّل] بناء عليه [أي: بناء على المرجح الشرعي؛ لا بالهوى والتشهي] . 2) الأحكام الدستورية التي مصدرها السنة المتواترة والمشهورة والآحاد الصحيحة، إذا كانت ظنية الدلالة على المعنى، إذ يمكن حملها أيضا على المعنى الثاني للنصّ، على أساس الاجتهاد في تفهم المراد من النصّ؛ ويكون هذا الحمل بمثابة تعديل للحكم السابق [في الدستور السابق] المبني على المعنى الأول للنصّ، على أن يكون هنالك دليل يرجح المصير إلى المعنى الثاني والإتيان بحكم [معدِّل] جديد، بناء عليه [أي: بناء على المرجح الشرعي لا بالهوى والتشهي]. 3) الأحكام الدستورية التي مصدرها الاجتهاد [فيما لا نصّ فيه]، سواء أكان ذلك يخص التشريع الدستوري الصادر من أولي الأمر عن اجتهاد، أو الأحكام الدستورية الواردة الواردة في مذاهب المجتهدين، وثبتت في الدستور؛ فكون هذه الأحكام تتغير بتغير الأزمان وتدور مع المصالح وجودا وعدما، يجعل بالإمكان أن يتناولها التعديل، وأن يعدل عن رأي اجتهادي في حكم مسألة دستورية إلى رأي اجتهادي آخر يحقق المصلحة أو ينسجم مع عرف أو عادة لا تناقض نصًا. وللحديث بقية تستكمل في المقالات التالية إن شاء الله تعالى.. تنبيه: ما وضعته بين معقوفين [ ... ] فهو توضيح مني لبعض كلام شيخنا حفظه الله.