يتفق الرأيان على عدم التعارض بين دستورية الكتاب والسنة -بمعنى سيادتها وعلوها على كل قانون بشري التدوين، دستورا كان أو ما دون الدستور في المقال السابق ذُكِرت جملةٌ من الأرقام لتقرَّب حجم النصوص الشرعية الدستورية ذات الموضوع الدستوري بالمفهوم المعاصر، عامّة وخاصة، كليات أو تفصيلات؛ وأمَّا بقية النصوص التي تحكم مسائل لا تُعدّ في موضوعها مسائل دستورية، فإنَّه يمكن عدّها دستورية بالمفهوم المعاصر على النحو الذي سبق بيانه من أنَّ المسائل المضمنة في نصوص الكتلة الدستورية تُعدّ دستورية وإن لم تكن دستورية من جهة الموضوع. وهنا ظهر رأيان رئيسان لهما تطبيقات في الواقع: الرأي الأول : يرى أنَّ (الكتاب والسنة) هما دستور الدولة الإسلامية . لأنَّ نصوصهما أعلى النصوص واجبة التطبيق في الدولة الإسلامية؛ كما أنَّ الدساتير الوضعية أعلى النصوص والقواعد واجبة التطبيق في الدول العلمانية. والرأي الثاني: يرى أنَّ (الكتاب والسنة) وإن كانا دستور الأمة بالمعنى العام والخاص، إلا أنَّ نصوصهما أعلى من مفهوم الدساتير البشرية القابلة للتعديل والتغيير . أي : أنَّ النصوص الشرعية (الكتاب والسنة) مع تقريرها للمبادئ والمسائل إلا أنَّها تبقى مندرجة فيما يعرف اليوم بالمبادئ فوق الدستورية أو النظام العام الذي يتضمن القواعد الجوهرية النظرية التي يُستمد منها الدستور التطبيقي، سواء منها ما كان حاكما للموضوعات الدستورية أو كان حاكما لبقية فروع القانون الإسلامي؛ وعليه فهي أعلى من النصوص الدستورية بالمفهوم المعاصر سواء منها ما يقرّر مبادئ أو مسائل تفصيلية دستورية أو غيرها. ويتفق الرأيان على عدم التعارض بين دستورية الكتاب والسنة -بمعنى سيادتها وعلوها على كل قانون بشري التدوين، دستورا كان أو ما دون الدستور- وبين إمكانية صياغة دستور إسلامي يُستمد من نصوص الكتاب والسنة، وما تفرع عنها من قواعد الشريعة ومبادئها، بحيث يدوّن الدستور الإسلامي بقسميه الثابت والمتغير، مستمداً من نصوصها ومبادئها وقواعدها، وفق ما يتطلبه الزمان والمكان والحال من مسائل مندرجة في المتغير الشرعي الذي لا يخرج عن نصوص الشريعة وقواعدها . ومن هنا يكاد ينحصر الخلاف في مسمى ما يستمد من الكتاب والسنة من قواعد دستورية تصدر في شكل وثائق دستورية : هل يسمى (دستورا) أو يسمى ( وثيقة دستورية تابعة للدستور)؟ فمن قال: (دستور الدولة الإسلامية : الكتاب والسنة) قال : ما يسنه البشر من قواعد دستورية ليس دستورا أصليا، وإنما هو وثائق دستورية تابعة للدستور، معللا بأن هذا له نظائره في النظرية الدستورية واقع الدستوري المعاصر . ومن قال: (الكتاب والسنة نصوص ومبادئ فوق الدستورية) قال : ما يسنه البشر من قواعد دستورية دستورٌ لا وثيقة دستورية . وعلى كل حالٍ فمآل كلا الرأيين يُعدَّ وفق نظرية الدستور داخل إطار ما يعرف ب(الكتلة الدستورية) . وهنا يرد أحد الأسئلة السابقة ، وهو: هل يصح وصف الكتاب والسنة بالدستور؟ فهناك من يقول: لا يصح وصف الكتاب والسنة بالدستور، لأنَّ نصوص الدساتير تخضع للتعديل بل والتغيير سواء منها ما يقرر مبادئ عامة أو مسائل تفصيلية؛ بخلاف المبادئ و المسائل الشرعية المقرّرة بالنصوص الشرعية، فهي لا تقبل التعديل فضلا عن التغيير، باتفاق علماء الإسلام . وهناك من يقول: لا حرج في ذلك؛ لأنَّ المراد أنها أعلى النصوص واجبة التطبيق في الدولة الإسلامية، وليس المراد أنها تماثل الدساتير الوضعية من كل وجه . وبالنظر في الواقع، نجد عددا من محققي علماء الشريعة يطلقون هذا الوصف على القرآن الكريم والسنة النبوية، ويصفونه بذلك في مؤلفاتهم ومقالاتهم وفتاويهم، فممن استعملوها في مؤلفاتهم : الشيخ محمد عزة دروزة رحمه الله، وذلك في كتابه : "الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحياة " بجزئيه ، وقد انطلق فيه من قول الله عز وجل :)إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم...( ، ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم : (تركت فيكم أمرين : كتاب الله وسنة نبيه ) .. وممن استعملوها في مقالاتهم سماحة مفتي عام المملكة السابق شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله ، ومن ذلك قوله في مقال له بعنوان (الإسلام قول وعمل وعقيدة) :" القرآن الكريم الذي هو أعظم كتاب وأشرف دستور" . وهذا يفيدنا في إمكانية الإطلاق من الناحية الفقهية الإسلامية؛ فهؤلاء العلماء الأجلاء وأمثالهم يصفون (الكتاب والسنة بالدستور)، ولا يعنون أنها تماثل الدساتير الوضعية؛ بل يريدون أنَّها مرجعية المسلمين أفرادا ومجتمعات وحكومات في كل شؤون الحياة، وهو معنى أوسع من معنى الدستور الوضعي . وأمَّا الواقع العلمي النظري والتطبيقي الدستوري الإسلامي، فيتأجل للمقالة القادمة إن شاء الله تعالى .