لئن كان الاشتغال في سبيل الدرء للفتنة يأتي على نحو من لملمة الأمور وفق ذهنية: “كل يصلح سيارته” وما على المحسنين من سبيل، فما أحسب أن ظاهرة: (التشاغب) تلك التي كادت أن تكون عنوانا لكل تظاهراتنا، ما أحسبها إلا وهي آخذة في التوكيد على تنميط تلك الحالة الشائنة في أن تستوعبنا لتكون لنا خالصة من دون الناس. ذلك أن التخندق من لدن أبناء الوطن الواحد كفيل بأن يجذر الولاء لفكرة: “الانتصار على الخصم” بوصفه آخر!، وما من ريب في أن هذا ال”آخر” قد أحلناه: صنما منذ صنعناه على أعيينا، ابتغاء أن نرضي به تضخم المحتسب الثاوي بدواخلنا، وليس ثمة من خاسر سوانا، حتى وإن نلنا جائزة الشيطان بحسبانه يفلح دائما في التحريش بيننا. ويمكن القول: إن خيريتنا في “شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” هي الأخرى لم تسلم من أذى احترابنا، وإلا فمن سيسأل عن الحسبة وقد نأينا بها بعيدا عن مرادات الشارع وفق مقاصده إذ جعلها ركنا سادسا، في حين رسخنا فهوما فاسدة الاعتبار للهيئة ببعض من الممارسات؛ فاستحالت لدى الناشئة ضروبا من: “هوشات” التنازع وفجور الخصومة ليس غير. والجنادرية: هاهنا يمكنك أن تعدها رمزا لعقلنا “الجمعي”. كما أن ابن تيمية ليس إلا منهجيته التي لم نفقه عنه أبجديتها على الرغم من كثرة جريه على ألسنة بعضنا بصورة فاقت ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم/ إنه نكوص في فقه المتابعة، ولو أن ابن تيمية بعث/ ثانية لصنف كتابا بعنوان: “السيف الخالد على من جعل مقام النبي وابن تيمية واحد”. وأيا ما كان الأمر.. فإني عطفا على ما قلته آنفا وددت أن تشاركوني هذه المنقولات: • “مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين والله أعلم” (الفتاوى 20/207) • “... وقد يقول كثير من علماء المسلمين أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم أقوالا باجتهادهم فهذه يسوغ القول بها ولا يجب على كل مسلم أن يلتزم إلا قول رسول الله فهذا شرع دخل فيه التأويل والاجتهاد وقد يكون في نفس الأمر موافقا للشرع المنزل فيكون لصاحبه أجران وقد لا يكون موافقا له لكن لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فإذا اتقى العبد الله ما استطاع آجره الله على ذلك وغفر له خطأه ومن كان هكذا لم يكن لأحد أن يذمه ولا يعيبه ولا يعاقبه... ثم أضاف: ولكن إذا عرف الحق بخلاف قوله لم يجز ترك الحق الذي بعث الله به رسوله لقول أحد من الخلق وذلك هو الشرع المنزل من عند الله وهو الكتاب والسنة” (الفتاوى 35/367). • “... إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها ولكن يتكلم بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه” (الفتاوى 30/79). الفتاوى زاخرة بمثل هذا بَيْدَ أن المساحة تضطرني للاكتفاء بما سلف، وابن تيمية فيما قرره لم يكن بدعا من العلماء حسبه أن جاء على إثر من سبقه من مثل: • سفيان الثوري: “إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه” (الفقيه والمتفقه 2/69). • بل قال: “ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهي أحدا من إخواني أن يأخذ به” (الفقيه والمتفقه 2/69). ومع كل ما يقال عن الحنابلة زورا اقرأ ماذا قرروا: – قال ابن قدامة: “لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه، فإنه لا إنكار على المجتهدات” انتهى. من “الآداب الشرعية” لابن مفلح (1/186). ويقول ابن مفلح رحمه الله: “قد بينا الأمر على أن مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها، وذكر القاضي فيه روايتين، ويتوجه قول ثالث وفي كلام أحمد أو بعض الأصحاب ما يدل عليه إن ضعف الخلاف فيها أنكر، وإلا فلا، وللشافعية أيضا خلاف، فلهم وجهان في الإنكار على من كشف فخذيه، فحمل حال من أنكر على أنه رأى هذا أولى ولم يعتقد المنكر أنه يفضي ذلك إلى مفسدة فوق مفسدة ما أنكره، وإلا لسقط الإنكار أو لم يجز” (الفروع – 3/23). • وقال البهوتي: “(ولا إنكار في مسائل الاجتهاد) على من اجتهد فيها وقلد مجتهدا؛ لأن المجتهد إما مصيب، أو كالمصيب في حط الإثم عنه وحصول الثواب له. قال في الفروع: “وفي كلام أحمد وبعض الأصحاب ما يدل على أنه إن ضعف الخلاف أنكر فيها وإلا فلا” (كشف القناع – 1/454). • قال بن رجب: “والمنكر الذي يجب إنكاره: ما كان مجمعا عليه، فأما المختلف فيه، فمن أصحابنا من قال: لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدا فيه، أو مقلدا لمجتهد تقليدا سائغا” (جامع العلوم والحكم – 341). وأختم بما يكشف حجم الظلم الواقع على محمد بن عبدالوهاب ودعوته إذ قال عند كلامه عن حكم التوسل بالصالحين ما نصه: “... فكون البعض يرخص بالتوسل بالصالحين وبعضهم يخصه بالنبي صلى الله عليه وسلم وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه فهذه المسألة من مسائل الفقه ولو كان الصواب عندنا قول الجمهور إنه مكروه فلا ننكر على من فعله ولا إنكار في مسائل الاجتهاد” (مؤلفات الشيخ، القسم 3 الفتاوى -ص68). فالتوسل إذن من مسائل الفقه! ومقتضى قول الإمام فإنه من مسائل الاجتهاد فلا إنكار من ثم! كذا فهمت فما الذي فهمتموه؟! • ولعله في مقالة قادمة أبسط القول: في أنه لا يسوغ الإنكار البتة في مسائل الاجتهاد بينما هو سائغ في مسائل الاختلاف غير المعتبر.