إن كثيرًا من مسائل الفروع، مثل حكم صلاة الجماعة، وحكم تواجد الرجال مع النساء في مكان واحد لغايات مختلفة، للصلاة، أو سماع الموعظة، أو تلقي العلم، أو للعمل مع الاحتشام الواجب، وملازمة الغرض الواجب في الحجاب المتفق عليه. في سائر مذاهب أهل العلم من جمهور علماء الأمة، أقول: إن هذه المسائل قد وقع الاختلاف فيها منذ العهد الأول، وكل أخذ برأي، فهي مسائل اجتهاد، الحكم فيها ظني لطرفي الاختلاف، وعلمنا من سيرة ملف علماء الأمة أن ما وقع فيه الاختلاف لا يصح الإنكار فيه، فمن القواعد التي عني بها العلماء على مرّ العصور “ألاّ إنكار في المختلف على تحريمه، بل الإنكار في ما هو مجمع على تحريمه”، يقول الحافظ بن رجب -رحمه الله-: (والمنكر الذي يجب إنكاره ما كان مجمعًا عليه، أمّا المختلف فيه فمن أصحابنا من قال: (لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدًا فيه أو مقلدًا لمجتهد تقليدًا سائغًا). وقال ابن تيمية -رحمه الله-: (إذا لم يكن في المسألة سنة، ولا إجماع، والاجتهاد فيها ساغ، فلا ينكر على مَن عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا)، وقال الإمام النووي -رحمه الله-: (إن المختلف فيه لا إنكار فيه، لكن إن ندبه على النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب، مندوب إلى فعله برفق)، وقال ابن قدامة صاحب المغني -رحمه الله-: (لا إنكار في مسائل الاجتهاد)، وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية: (لا إنكار فيما يسوغ فيه خلاف من الفروع على مَن اجتهد فيه أو قلده)، ولمّا سُئل ابن تيمية عمّن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد: هل ينكر عليه أم يهجر؟ وكذلك مَن عمل بأحد القولين؟ قال: (الحمد لله مَن عمل بقول بعض العلماء لم ينكر عليه، ولم يهجر، ومَن عمل بأحد القولين لم يُنكر عليه، وإن كان في المسألة قولان، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلاّ قلّد العلماء الذين يُعتمد عليهم في بيان أرجح القولين)، وبالنظر إلى هذا فإن كثيرًا من المسائل التي تُثار اليوم هي مسائل فروع قد وقع فيها الاختلاف منذ أمد طويل، واجتهد فيها الأفذاذ من علماء هذه الأمة، وكل أخذ بدليل، فكان له فيها قول يخالف قول غيره، فلم ينكر أحد منهم على الآخر، بل إن الإمام أحمد يقول: ليس للفقيه أن يحمل الناس على قوله، ولا أن يشدد عليهم، وذكر -يرحمه الله-: أنه إذا كان في المسألة حديثان، فأخذ كل بحديث لم ينكر عليه، فمثلاً صلاة الجماعة في المسجد، أو خارجه هي عند الجمهور سنة مستحبة عند الإمام مالك، وأبي حنيفة -رحمهما الله- وعند بعض الشافعية، وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد، وفي أحد قولي الإمام الشافعي -رحمه الله- أنها فرض كفاية، وعند جمهور من المتقدمين من أصحابه، وعند كثير من المالكية، وبعض الأحناف، وليست فرض عين في ما أعلم، إلاّ في قول للإمام أحمد -رحمه الله- وبعض أصحابه، فاستحبابها، وأنها سنة هو الأشهر في مذاهب أهل السنة والجماعة، وكونها عند بعضهم فرض كفاية لا يعني إلزام الكافة بها، فالمعلوم بداهة أن فرض الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولكل من القولين أدلته التي لا يجهلها طالب علم، ومناقشة كل طرف لأدلة الآخر، ووجوه استدلاله بها معلوم لكل ذي علم، له اطّلاع على هذه الثروة العظيمة في فقهنا الإسلامي، ولا يحتمل بسطها مقالة كهذه، ولمَن أراد مراجعتها في مَواطنها من مصادر الفقه فليفعل، أمّا التشدد في هذا الأمر في إلزام الخلق بأحد القولين فليس فيه نفع للأمة، فإبقاء هذا التنوع في الاجتهاد مسعف للأمة بالسعة، فقد ألّف أحدهم في عصر الإمام أحمد كتابًا في الخلاف فقال له: سمّه كتاب السعة، والإنكار على من قال إن صلاة الجماعة مستحبة غير واجبة متبعًا ومقلدًا لبعض سلف علماء الأمة لا يستنكر قوله، ولا يحمل عليه ويُهاجم، أو أن تحاكم نيته، فستظل صلاة الجماعة شعيرة تمارس على مدى الزمان، لها من الفضل الكثير من الدرجات كالوارد في الأحاديث سبع وعشرين، أو خمس وعشرين، والحسنات يضاعفها الله أضعافًا كثيرة، وستظل صلاتها في المساجد الفعل الأفضل، ولكن ستظل صلاة الناس في بيوتهم، وفي أماكن عملهم، بل وفي كل موضع طاهر صحيحة مقبولة حتى وإن صلّاها المسلم منفردًا، أمّا أن يجرّم مَن فعل ذلك، أو يُحاسب فهذا ما لم يرد به في الشرع حكم، كذا الأمر في تواجد الرجال والنساء معًا في مكان واحد، فالأصل فيه الحِل، وإذا ظهر في بعض صوره ما يقود إلى محرّم مُنع من أجل هذا، إذا كان يقود إليه يقينًا أو غالبًا، ولا يعتمد ذلك على قول مجرد دون دراسة ميدانية تؤكد ذلك، لا أن كل تواجد للرجال والنساء معًا محرّم، أو أنه يجب الفصل التام بين النساء والرجال، فهذا كله ما لم يرد به نصٌّ، ولا يصح فيه إجماع، ولا يقوم عليه دليل، وسنظل ندعو إلى أن يحتمل بعضنا بعضًا إذا اختلفنا، ما دام اختلافنا لم يعارض نصًا قطعيًا، أو إجماعًا ثابتًا، وظل هذا الاختلاف في دائرة الاجتهاد السائغ، ففي هذا مصلحتنا جميعًا، واستبقاء لوحدتنا في ظل ديننا الحنيف، وهو حتمًا خير من هذا الجدل العقيم، الذي يثور بين الآونة والأخرى، ولا يتورّع بعضنا لإتهام مخالفه بشتى التهم لمجرد أنه لا يتفق معه على رأي واجتهاد، فإنما يصنع مثل هذا فرقة بيننا لا مصلحة لأحد فيها، فهل نفعل؟ ذاك ما أرجوه.. والله ولي التوفيق.