أكد الشيخ تركي بن راشد العبدالكريم خطيب جامع الشيخ عبدالعزيز بن ناصر الرشيد - رحمه الله - بالرياض ان المناظرات العلمية وايراد الحجج ومناقشتها بين طلبة العلم أمر مستحسن في الشرع لا يذمه أحد من ذوي الألباب وقال لا نريد كما يفعل المتطبب الذي جاءه مريض بجراحه فبدلاً من علاجه وتقديم الدواء له ذهب يستعمل المسكنات وقال كل مسألة اجتهادية هي من مسائل الخلاف وليس العكس. وقال ان التشنج على المخالف والتعنيف له في المسائل الاجتهادية لا مسوغ له وقال إن التوسعة في اختلاف اصحاب رسول الله توسعة في اجتهاد الرأي وقال إن لفظ (اختلاف أمتي رحمة) لا اصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم كما نص أهل العلم. جاء ذلك الحوار التالي: @ يلاحظ في الآونة الأخيرة خروج عدد من المخالفين لإجماع الأمة ثم يخرج أحد العلماء بالرد بتشنج وغطرسة فما قولكم؟ - المناظرات العلمية وايراد الحجج ومناقشتها بين طلبة العلم مع الود وصفاء القلب ومراعاة الأدب أمر مستحسن في الشرع، لا يذمه أحد من ذوي الألباب؛ اذ عن طريق الاختلاف ينبلج النور، لا جرم ان كان من أسماء القرآن العظيم "الفرقان"، لأنه يفرق بين الحق والباطل، وسمى الله عز وجل يوم بدر: يوم الفرقان. فاختلاف الرأي في مسائل الاجتهاد ظاهرة صحية طبيعية لا تذم ما دام التناصح موجوداً، والود ولاحب غير مفقود، وطلب الحق والسعي اليه الغاية. اما اذا دخل المراء والجدل، وذهب الأدب، وطلبت الغلبة دون الحق، وذهب الود؛ فذاك مجلس الشيطان، صاحبه في خسران. وعن ابي امامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً،. وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في اعلى الجنة لمن حسن خلقه"، حسن لغيره: اخرجه ابو داود فالأصل أن المناظرة العملية عن طريق إيراد الحجج ومناقشتها، مع بقاء الألفة والأخوة في الدين، والسعي لطلب الحق من خلال ذلك، من الأمور المشروعة. @ اختلاف مذموم كيف يكون ذلك هل من إيضاح؟ - والمتأمل لنصوص الشرع يجد ما يلي: 1- إن الاختلاف بعد العلم بالبينات خلاف مذموم وبغي. قال الله تبارك وتعالي: (وما اختلف فيه إلا الذين أتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم) (البقرة: 213). وقال تبارك وتعالى: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم) (آل عمران: 19). وقال تبارك وتعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) (آل عمران: 105). وقال تبارك وتعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين، وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) (الجاثية: 16- 17). 2- إن الاختلاف قد يقع بين المسلمين، ولكن الله يهديهم إلى الحق، ما داموا يطلبونه من الله عز وجل. 3- ان الاختلاف في الفهم ليس من الاختلاف المذموم اصحابه، وأن الفهم منه ماهو صحيح ومنه ماهو خطأ، وأن صاحب الفهم الصحيح وصاحب الفهم الذي أخطأ كليهما ممدوح على ما بذله من جهد للوصول الى الصواب. قال الله تبارك وتعالى: (وداود وسليمان اذ يحكمان في الحرث اذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهَّمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين) (الأنبياء: 78- 79). 4- ان الاختلاف الذي يحمل معنى التناقض ليس في الشرع. قال الله تبارك وتعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) (النساء: 82). 5- ان الاختلاف الذي يحمل معنى التنوع موجود في الشرع، ولا يذم من اخذ بنوع منه غير النوع الذي اخذه الآخر. فقد تنوعت صيغ دعاء الاستفتاح، والتشهد، وأذكار الركوع والسجود، وصفة ركعات الوتر.. وغيرها. والاتيان بأي صفة منها جائز، وصاحبه محسن؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في اختلاف القراءات. عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، انه سمع رجلاً يقرأ آية سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على خلاف ذلك. قال: فأخذت بيده، فانطلقت به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: "اقرآ، فكلاكما محسن، ولا تختفلوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا". أخرجه البخاري. وفي رواية: "فأهلكوا". بفتح اللام، وفي رواية بضم أوله وكسر اللام. 6- ان الاختلاف الذي يورث العداوة والبغضاء والفرقة بين المسلمين ليس من الإسلام. @ هل نتج عن الخلاف عدوات كما هو حاصل في وقتنا الحاضر؟ - كل مسألة حدثت في الإسلام، واختلف الناس فيها، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة؛ علمنا انها من مسائل الإسلام. وكل مسألة حدثت وطرأت، فأوجبت العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة؛ علمنا انها ليست من امر الدين في شيء، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية: (ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) (الأنعام: 159). نقله الشاطبي وقال: "وهو ظاهر في ان الاسلام يدعو الى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي ادى الى خلاف ذلك؛ فخارج عن الدين". @ هل مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، وما الصواب وما عليه الأئمة؟ - ان مسائل الاجتهاد: مالم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً؛ فيسوغ فيها الاجتهاد؛ لتعارض الأدلة، او لخفاء الأدلة فيها. ومسائل الخلاف هي: كل مسألة اختلف فيها العلماء، سواء كان فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً ام لا (1). فكل مسألة اجتهادية هي من مسائل الخلاف، ولا عكس. وهذا التفريق هو محصلة قولهم: "لا اجتهاد مع النص"، وانما يعنون بالنص الدليل الظاهر الذي يجب العمل به. وينبني على هذا الأصل امور: منها: ان الخلاف الذي يراعى هو ما كان في المسائل الاجتهادية، اما المسائل التي ثبت فيها النص الظاهر الذي لا معارض له؛ فالمعتبر فيها ما دل عليه النص، ولا عبرة بخلافه. ومنها: ان قولهم: "لا انكار في مسائل الخلاف" انما مرادهم به المسائل الخلافية الاجتهادية، اما المسائل التي تبث فيها النص الذي لا معارض له؛ فهذه من خالف النص ينقض قوله وينكر عليه اتفاقاً. ومنها: ان اختلاف التضاد منه ما يكون في المسائل الاجتهادية. ومنه ما يكون في مسائل الخلاف التي قام الدليل على احد الأقوال فيها؛ فهنا العبرة بما وافق الدليل. ومنها: ان قول من قال: "كل مجتهد مصيب"؛ انما مرادهم في مسائل الاجتهاد. ومنها: ان قولهم: "الاختلاف رحمة" انما مرادهم به في مسائل الاجتهاد (1). اذا علمت هذا؛ فاعلم ان مسائل الاختلاف التي جاء مع قول فيها دليل ظاهر يجب اتباعه لا عبرة فيها بالقول المخالف للدليل. قال الشافعي - رحمه الله - (ت 5204) - في محاورة له مع بعض اهل العلم - ؛ قال: "فإني اجد اهل العلم قديماً وحديثاً مختلفين في بعض امورهم؛ فهل يسعهم ذلك؟ قال الشافعي: فقلت له: الاختلاف من وجهين: احدهما محرم، ولا اقول ذلك في الآخر. قال: فما الاختلاف المحرم. كل ما اقام الله به الحجة في كتابه او على لسان نبيه منصوصاً بيناً؛ لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه. وما كان من ذلك يحتمل التأويل، ويدرك قياساً، فذهب المتأول او القايس الى معنى يحتمله الخبر او القياس، وان خالفه فيه غيره؛ لم اقل: انه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص" (2). في ان التشنيع على المخالف، والتعنيف له في المسائل الاجتهادية؛ لا مسوغ له، والأولى الدعوة الى التباحث والنظر في اتباع الحق الذي دل عليه الدليل. وأن اعتماد قولهم: "لا ينكر في مسائل الخلاف" واطراح البحث والنظر في الراجح والصواب في مسائل الاختلاف: خلاف مقصود اهل العلم، وخلاف الصواب الذي يقتضيه النظر الصحيح. @ في هذه العبارة رويت في حديث بلفظ: "اختلاف امتي رحمة". وقد نص غير واحد من اهل العلم بأن هذا اللفظ لا اصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم هل هذا صحيح؟ - معنى هذه الجملة ينبغي ان يفهم على ان المراد: الاختلاف في المسائل الاجتهادية، التي لم يرد فيها دليل يجب اتباعه. ووجه كون الاختلاف رحمة: انه يفتح الباب للنظر والترجيح بين اقوال العلماء، ويسلم من مخالفة الأدلة (2). وأما اختلاف العلماء بالنسبة الى المقلدين؛ فكذلك ايضاً، لا فرق بين مصادفة المجتهد الدليل، ومصادفة العامي المفتي، فتعارض الفتويين عليه كتعارض الدليلين على المجتهد؛ فكما ان المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معاً، ولا اتباع احدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح؛ كذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معاً، ولا احدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح" (1)أ ه. قلت: واجتهاد العامي وترجيحه بحسبه، فهو يرجح بحسب الأعلمية والتقوى وغيرها (2). فإذا علمت هذا؛ فإن فهم قولهم: "الاختلاف رحمة"، على معنى اقرار الاختلاف الشديد في المذاهب الفقهية، وترك الرجوع الى القرآن العظيم والسنة النبوية، وترك السعي الى معرفة الصواب والراجح، وترك السعي الى حصول الاتفاق بينهم، هذا الفهم ليس هو مراد من اطلق هذه العبارة من السلف، بل هو يتنافى مع الشرع، بل له ما يعقبه من اثر سيئ على الأمة (3). وبالله التوفيق. وهذا صحيح، اذ هو الأحوط، لكن ينبغي ان يفهم على وجهه، وهو ان المراد منه في المسائل الاجتهادية، اما المسائل التي علم فيها القول الصواب الذي قام معه الدليل الذي تجب متابعته؛ فهذه لا عبرة بالقول المخالف فيها. وقد نبه العلماء - رحمهم الله - على ذلك من خلال الشروط التي ذكروها في الخلاف الذي يراعى، وهي الشروط التالية: 1- الا يخالف نصاً جلياً، او اجماعاً، او قياساً صحيحاً. 2- ان يقوى مدركه، بحيث لا يعد هفوة. 3- الا توقع مراعاته في خلاف آخر، ويكون الجمع بين الأقوال ممكناً. اما اذا جرت مراعاة الخلاف الى ترك ما ترجح لديه؛ فلا مراعاة للخلاف هنا، انما يعمل بما ترجح لديه، والله اعلم (1).