.. سأترك لفطنة القارئ استنطاق صمت البدايات.. وتأويل حمى التحولات على مدى يومين (ثقافيين) فقط، من بدايات آذار/ مارس 1992م وبدايات مارس المنصرم لهذا العام 2012م.. عشرون عامًا بالتحديد.. عقدان من الزمن.. زمن بعمر طفل نما وكبر وأصبح على مشارف الانتهاء من دراسته الجامعية.. الأول- مارس/ آذار 1992م أستيقظ مبكرا.. أستعرض كالعادة صحافة اليوم وأجدها زاخرة بهيجان إبداعي نقدي، يترسم بجد خطى الحياة الثقافية ببحثها المؤرق عن الجديد والمختلف.. يواصل د. عبدالله الغذامي سلسلة مقالاته حول النص الغرائبي في صفحة ثقافة اليوم - جريدة الرياض، والتي تتمحور - هذه المرة - حول تكاذيب الأعراب، بعد أن يذهب ناقدنا إلى أن هذه التكاذيب الحكائية تتداخل مستويات الدلالة فيها بين البساطة والعمق، شأنها شأن كل الحكايات، وبأن الدخول -بالتالي - إلى عمق النص يحتاج إلى مخاتلته والتحايل عليه، بوضعه بين محاور ثلاثة تعتمد فعل الحكاية بوصفها نصًّا شاعريًا بالدرجة الأولى، ثم يستمر الغذامي بمهارة نقدية محترفة بالاستنطاق التأويلي لثيمات ذلك النص ودلالاته (الفرس - السهم - الظبي).. لطالما كان الغذامي في تلك الفترة يتحفنا بقدراته الفذة على سبر أغوار النصوص ومخاتلتها واستنطاقها وتشكيلها، والكشف عن التداخل البنائي للنصوص كقراءاته التشريحية (التجويقية) لأربع قصائد من الوزن الثقيل (التضاريس - محمد الثبيتي، مات بشير عريسًا - عبدالله الصيخان، قاسم الأسود - محمد جبر الحربي، وغجرية الريف - غيداء المنفى) جاعلًا من تلك النصوص حكاية واحدة، تتكامل جزيئاتها لصياغة نشيد متناسق واحد. أقلب بعد ذلك الملحق الثقافي لصحيفة اليوم فأجد: فوزية أبوخالد وحسن السبع وأحمد كتوعه.. البعد المسرحي للسير والملاحم.. حمى الرفض في قصائد أدموا إيديه، جداريات الفنانة منيرة الموصلي، إعلان عن ديوان (مهم) للشاعر الذي يأتي دائمًا كغيمة.. محمد الدميني (أنقاض الغبطة)، وفي الشرق الأوسط أجد حوارًا قويًا مع الشاعر - صاحب ملحق أصوات الثقافي الذي لا يتكرر - محمد جبر الحربي يؤكد فيه على «إن الحداثة ليس شيئًا بذاته، وإنها ليست الخارج بل الداخل.. هي الإنسان واللغة.. فكيف يموت الفن؟ كيف يموت الشعر؟».. ثم يقول إنه «سيغص بجملة شعرية ويموت.. بينما النثر هو صباح العالم الرحيب..»! الثانية ظهرًا: يتصل بي أستاذنا د. عالي القرشي، ويخبرني بوصول إهداء لي من الدكتور الغذامي، وهو إصداره الجديد وقتها.. كتاب (ثقافة الأسئلة) وأفرح كثيرًا بهذه الإهداء (الدسم)، ثم يتداعى في ذاكرتي كتاب مشابه لاسم كتاب الغذامي وهو كتاب (ثقافة الصحراء) للدكتورسعد البازعي، والذي كنت أتناقش فيه قبل أيام مع أستاذنا الفاخر/ القاص الأستاذ محمد الشقحاء، بكونه بحثًا جادًا (قريبًا) من التجارب الأدبية المحلية لثقافتنا ومبدعينا.. الرابعة عصرًا: يمر بي (كالعادة) صديقنا الشاعر الخالص حمد الفقيه بأطيافه المتألقة دائمًا، حاملًا لي مفاجأة أخرى. وهي (مسودة) رواية جديدة للكاتب سعد الدوسري (الرياض - نوفمبر1990م).. قرأتها - بعد ذلك - واستبشرت بإنتاج روائي حقيقي قادم (لم يتحقق بالطبع.. مقارنة بامتداد البعد الزمني.. عقدان من الزمن كان غثنا في الرواية أكثر من سميننا.. ومعظم الأعمال التي صدرت كانت تحت مسمى الرواية (تجاوزًا)! أركب مع حمد سيارته، أقلب صفحات الرواية بدهشة، ويداعب مسمعي بعذوبة وقلق صوت الخالد طلال مداح بأغنية جديدة لنص جديد للشاعر بدر بن عبدالمحسن ينادي بها الغارقين في السكون ليستيقظوا ويشعلوا الدنيا غناءً وحبًّا ولوعة: «سيدي قم.. ما خبرت اللي يحب يشتهي النوم/ سيدي قم.. لا تنام وفي السما باقي نجوم... يا جريح البارحة كيف طبت اليوم؟» بعد موال لا يفصح عن عذوبته وغوايته صوت سوى طلال.. طلال (فقط): «زارنا في الظلام يطلب سترا// زورة البر بعد طول غيااااب... وتجلى بطلعة بدر// فافتضحنا بنوره في الظلام».. الله يا طلال.. كم كنا محظوظين حقًّا! (كجيل لا يزال - وقتها - يرتشف آخر بقايا كأس الزمن الجميل).. السابعة مساء: نصل مقهى (نجمة) العريق - في طائف الورد - ونجد أمامنا الشاعر الجميل الآخر الحميدي الثقفي الذي كانت قصائده وقتها انقلاب شعري ضخم على العلاقات والتركيب المتداولة في النصوص الشعبية.. كأن الحميدي أراد أن يستثير شاعرية صاحبي حمد الفقيه الذي ستقام له بعد صلاة العشاء أمسية شعرية.. فذهب يتآخى مع إيقاع المطر الذي بدأ ينساب بغزارة من رواق خيمة المقهى، ويغني: صبي الما يا سلمى لناس غلابة ** من عشقهم للما يحلبون السراب ثم يتوهج لوعة وشعرًا فيقول: إعص.. والا طيع عصيانك بطوعك ** لا تطفي جمرة الما.. في يديه.. هاك نار القلب لا تحطب ضلوعك ** تحطب ضلوعك ونار القلب حية؟! الثامنة والنصف مساء: نتجه مسرعين إلى (لأنتركونتينال) الذي تقام فيه الأمسية، وفي الطريق وإفصاحًا عن نشوتي الفاتنة، وإمعانًا في تخليق جو شعري متناسق أقرأ للشاعر الذي كان حديث العالمين وقتها، الشاعر محمد عواض الثبيتي: «أدر مهجة الصبح صب لنا وطنا في الكؤوس يدير الرؤوس وزدنا من الشاذلية حتى تفئ السحابة»... التاسعة مساء: الصالة الكبرى للاحتفالات في الفندق.. المنصة يجلس عليها متوسطًا الشاعر عبدالله الزيد وعلى جانبيه الشاعران علي الدميني وحمد الفقيه.. يمارسون جميعًا صياغة أخرى لمشهد معرفي إبداعي.. يقرأ حمد لسارته: «أحلم الآن أنك سارا تفتين للطير خبز القصيد، وأن القصيدة قد أوتيت منطق الطير واستأذنت صمتنا لتوت بأقصى الكبد..» ثم يقرأ الدميني واقفا كعادته: قد خلعتك عن شجر يتبادل فيك السهام إلى شجر يتعاور فيك الخصام ويقرأ عبدالله الزيد من قصائده المفعمة بالألم الفاتن «عندما يكتفي الساحل الأبدي بصمت الغياب»..! الثاني من مارس 1992 الرابعة عصرًا: يصلني ملف نشرته جريدة عكاظ عن التجربة القصصية الرائعة التي كان ينسج خيوطها الراقية أسماء فاعلة جميلة كيوسف المحيميد وصالح الأشقر وفهد العتيق وعبدالعزيز الصقعبي.. أقرأ مفتونا لصديقنا المحيميد بعض قصصه القصيرة التي تتضمن - بجودة محترفة - وحدة الأثر المطلوبة في هذا الفن، وشعرية اللغة وشفافية الرؤية، والتعالق الحميم مع الكائنات الجميلة.. أقرأ من مجموعة (رجفة أثوابهم البيض).. الريش.. الفارس.. أسئلة بأجنحة خفيفة.. السابعة مساء: أشاهد على الشاشة الفضية الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين رئيس نادي جدة الأدبي، يحكي عن تجربته الناجحة في مسيرة النادي، والتي أحدثت بصمة لا تتكرر في المشهد الثقافي.. عندما شرع نوافذ النادي لاستقبال كل أشعة الجمال الخالص والفن الحديث.. ثم يخبر عن صدور عدد جديد من مجلة (علامات) النقدية التي قدمت خدمة رائعة للفضاء النقدي، باستكتاب رواد النقد الحديث محليًا وعربيًا، ليطرحوا مشروعاتهم النقدية (طازجة).. (مؤثرة)! التاسعة مساء: نادي الرياض الأدبي يشهد حالة نقدية مغايرة.. يصعد د. الغذامي منصة التقديم ويطلب من منظمي اللقاء إطفاء مصادر الإضاءة، ثم يعرض لوحة تشكيلية للفنان السعودي (بكر شيخون) ويطلب من الحاضرين التأمل فيها بدقة شارعًا في إقامة حوارية بينها وبين اللوحة إياها، ليصل في اللحظة ذاتها مع جمهوره إلى حقيقة (الغياب) الذي تركته اللوحة (بوعي فني) لحضور لم يكتمل في فضاء اللوحة، والذي أنتج القيمة الفنية الحقيقية للعمل، وبالتالي فإن الأمر يحتم انتقال ذهنية المتلقي إلى خارج العمل بدلًا من الانهماك في الداخل والحاضر والظاهر دائمًا! ثم يكشف المحاضر عن علاقات جديدة لهذه اللوحة مع نصوص أخرى في سياقات فنية مختلفة، فيقرأ قصيدة (أغنية في ليل استوائي) للدكتور غازي القصيبي، زاعمًا أن ثمة علاقات دياليكتيكية تربط الأعمال الفنية الخالصة ببعضها التي يمكن (تجويقها) لصياغة نص واحد في النهاية. التاسعة مساء (مكرر): يقال إن في اللحظة المتزامنة ذاتها كان د. معجب الزهراني يقرأ حوارية (باختين) على جمهور مماثل في نادي حائل الأدبي.. الأول والثاني... (إلخ) - مارس 2012م: - الكاتب صالح الشيحي يصف ب(الخزي والعار) حال المثقفين والمثقفات المشاركين في الملتقى الثاني للمثقفين السعوديين، ويؤيده - بشده - الشيخ محمد العريفي، الذي يؤكد أن فريق عمله داخل فندق الماريوت أثبت له تلك المشاهد المخزية!! - نص شعري جديد للشاعر سالم بن عوض - د. سمير الشريف (من الأردن) يكتب عن (التغني بالوطن) في شعر محمد فرج العطوي.. - اشتداد الاختلاف بين المؤرخين حول تحديد موقع وادي العقيق (في المدينةالمنورة).. - تلاسن ومعارك بالأيادي اجتماع الجمعية العمومية لنادي جازان الأدبي. - نادي حائل الأدبي يقرأ آثار حاتم الطائي في مهرجان ثقافي ممتد! - د. عبدالله الغذامي يحاضر - في نادي جدة الأدبي - عن (التحولات الثقافية) ويقرر موت (الهوية) و(العولمة) وبروز ظاهرة (تعدد الثقافات)، ويشيد بدور رجال الحسبة في فعاليات الثقافة! - صدور رواية (شباب الرياض) في معارضة روائية للرواية الشهيرة (بنات الرياض) لرجاء الصانع. - استمرار طباعة الكتاب المليوني (لا تحزن) للشيخ عايض القرني في بعض دور النشر، رغم صدور الحكم بإثبات حق الكاتبة (المدعية) في الكتاب! - أغنية (عيار) تضرب الرقم القياسي في المبيعات متجاوزة أغنية «خذني لها يالتاكسي..» - فوز الشاعر الإماراتي بجائزة (بيرق الشعر الشعبي) لهذا العام..!! - (ناقتي يا ناقتي).. من جديد!!