من منا لا يتذكر، ولو فقط من خلال القراءة التاريخية لأحوال الناس في الماضي القريب، الحكواتية ودورهم الهام في تسلية الناس وإسعادهم ببعض الحكايات الخيالية والقصص الرائعة، فالرجال قديماً كانوا يهربون إلى مجالس الحكواتية في ليال السمر وذلك لكي ينفكوا ولو لبرهة من أعباء الحياة ومتاعبها التي تتناوبهم على مدار اليوم. لم يكن الحكواتي نكرة بين أفراد مجتمعه بل كان له احترام خاص ومكان معروف للصغير والكبير، فمجلسه إما أن يكون في وسط الحارة وإما في إحدى المقاهي العامة التي تعج بالزبائن، والحكواتي كما يقول عنه معاصروه من الأحياء مفتون بطبعه بالقصص الخرافية الممزوجة بشيء من البطولات والحب العفيف الذي لا يخدش الحياء كقصة عنترة بن شداد وقصة الزير سالم وشيء من قصص ألف ليلة وليلة. يهدف الحكواتي من قصّه القصص على الناس إلى إثبات ذاته المفتونة بهذا النوع من الفن، وإلى الترزّق الشريف من هذه المهنة، وإلى نشر شيء من الفضيلة والأخلاق بين الناس، فعلى سبيل المثال، فإن «الفتوة» كان يُنظر إليه على إنه رمز من رموز الحارة وحامي حماها من الدخلاء والأغراب، لذلك كان الحكواتي يعزّز دور «الفتوة» في نفوس السامعين وذلك عن طريق ذكر بعض البطولات الخارقة لبعض الفتوات. والحكواتي في ذلك الزمن الجميل كانت له سمات شخصية تتمثل في ضخامة الجسم وجهورية الصوت والملامح الرجولية التي تنم عن غلظة وشيء يسير من المرح والدعابة، أما لبسه فيكاد يكون محصورا في اللبس الحجازي الجميل المكوّن من شال على الكتف، والعمّة مع الكوفية على الرأس، والصدرية المزينة بسلسال لحمل الساعة، والبقشة التي تلف على البطن فتزيد صاحبها شيئًا من الوجاهة، أما لزمة الحكواتي الرئيسة فهي «الشوم» الذي قد يُسمى «النبوت» وهي عصا صلبة لا يستغنى عنها الحكواتي لأنها تتماشى مع الأحداث البطولية للقصص. في الهجيع الأول من الليل يشق الحكواتي طريقه بين مريديه وعشاق فنه ثم يتصدر المجلس ويجلس على أريكة متسعة تسمح له أثناء القصص أن يتمايل ذات اليمين وذات الشمال وذلك لشد انتباه السمّيعة، قد يجلس بالقرب منه إثنان من خلصائه لشد أزره وتشجيعه ولزيادة هيبته ووجاهته بين الحضور. غالباً يبدأ قصصه بذكر الله تعالى والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم يبدأ القصص من حيث انتهى به المطاف في الليلة السابقة، وفي نهاية الجلسة يترك مكاناً واسعاً للتشويق في نفوس السامعين لعلهم لا يتأخرون عنه الحلقة القادمة. غربت شمس الحكواتية منذ عقود وذلك بسبب ظهور وسائل التسلية الحديثة كالراديو والتلفاز وما شابه ذلك من وسائل التشويق الحديثة، إلا أننا في زماننا الحاضر فوجئنا بظهور جيل جديد من الحكواتية يتصدرون المجالس العامة والمنتديات الأدبية وبعض الدوائر الحكومية. هؤلاء الحكواتية الجدد من الدكاترة المحصور تخرّجهم من (جامعة حراج بن قاسم) أو من (جامعة سوق الحمام) أو من (جامعة سوق الغفلة) وما هنالك أيضاً من المسميات (العليله لمصادر شهادات عليله). إذاً دور الحكواتية لم ينته بالكامل فعصرهم الجديد لا يزال يرفل في شبابه رغم ما يلاقيه من حرب شعواء من قبل مسؤولين غيورين على مستقبل العلم والتعلم ومن قبل أكاديميين أفاضل حريصين على نزاهة الساحة العلمية وعلى خلوها من المتطفلين الرعاع. هؤلاء الحكواتية الجدد ظهروا علينا بلباس جديد يختلف عن ألبسة قدامى الحكواتية وأسمعونا قصصًا جديدة تدور أحداثها على أنفسهم وعلى ما أنجزوه من توهمات علمية لا سند لها في واقع الأمر. يقول أحد المتشددين في عداوتهم: ضمّني مجلس مع أحد دكاترة الغفلة وكان ذلك المجلس عامرًا بالشيوخ الأفاضل وبالعلماء وطلاب العلم وبالحرفيين والعامة، كانوا جميعاً عاديين لا شيء فيهم يلفت الانتباه إلا شخص متصدّر المجلس ويتبارى الجميع بين حين وآخر بمناداته يا (دكتور). أنجذبت إليه أكثر عندما استلم زمام الحديث في المجلس. لم يسمح لغيره بالحديث ولا بالمداخلة مما جعلني أشعر أن جميع من في المجلس طلاب وإنه هو المعلم الملهم الذي لم يترك شاردة ولا واردة إلا خاض فيها بعلم أو بدون علم. تراه بين حين وآخر، خاصةً عند سماعه كلمة (يا دكتور) تثور في نفسه الكبرياء فيعلو صوته وتنتفخ أوداجه ويحتد نظره وتكثر التفاتاته لكل من في المجلس وكأنه بهذا الصنيع الممل يطلب من الجميع التصديق على شهادته أو مباركة ثرثرته وهشاشة أفكاره. طوال حديثه الممتد لساعات لم يخرج البتة عن تمجيد الشهادات ودورها في رفعة الفرد وتميزه عند اقرانه، فهو يقول: على سبيل المثال لا الحصر، منذ نعومة أظفاري وهدفي أن أكون دكتورا مشهورا يشار إليه بالبنان وتم لي ذلك لأني واصلت الليل بالنهار في تحصيل العلم. بعد حصولي على شهادة الدكتوراه تهافتت عليّ أصناف الشهادات، فمنها شهادات شكر وتقدير، ومنها شهادات دورات وشهادات عضوية في العديد من الجمعيات العلمية. التقط أنفاسه بصعوبة ثم قال شهاداتي الآن تغطي جدران مكتبي بالكامل حتى مصراع باب المكتب لم يسلم من تهافت الشهادات عليه، وهذا ما دعى صديقي فلان عندما أذهلته كثرة شهاداتي أن يداعبني سامحه الله بأرجوزة على طريقة أراجيز اخواننا المصريين حيث قال: شهاداتي شهاداتي!! لمن أهدي شهاداتي؟ لعماتي لخالاتي؟ لأهل الأرض أم ذاتي؟ أنا محتار يخواتي!! أنا محتار يخواتي!! يقول ذلك المتشدد في عداوة دكاترة الغفلة: كان من ضمن الحاضرين في المجلس أديب لمّاح وأكاديمي لامع له العديد من البحوث الجامعية والكتب الرصينة وله مساهمات رائعة في المؤتمرات والندوات العلمية. كانت هيئة ولبس ذلك الأكاديمي الوقور كهيئة بقية الحاضرين لا يختلف عنهم بشيء إلا ببنات أفكاره المنظمة. دخل هذا الأكاديمي بصعوبة في نقاش هادف مع دكتور الغفلة فقال له ما شاء الله لقد أهديتنا من كل علم بطرف وكأنك موسوعة تتوسط مجلسنا فمن أين حصلت على الدكتوراه وما عنوان رسالتك؟ أجاب دكتور الغفلة بعجالة لعله ينهي النقاش والرد على الاسئلة: الدكتوراه عن طريق المراسلة أما عنوانها فاعتقد إنه عن «التصوير البلاغي في الشعر الجاهلي» أو إنه عن «فنون البلاغة عند العرب» نسيت يا أخي لطول المدة.. لم يمهله الأكاديمي وسأله ثانية: هل طبعت رسالتك وهل لك إنتاج فكري مطبوع لنستفيد منه؟ قال دكتور الغفلة: كل ما سألت عنه فهو تحت الطبع ولكن المسألة تحتاج إلى بعض الوقت، لكني أعدّك والحضور أن أهديكم نسخًا من كتبي متى تم طبعها. قال الأكاديمي: أنا من روّاد الأدب والفكر في هذا البلد المبارك، هكذا يقول عني المنصفون، وقبل أيام قرأت أبياتًا شعرية في قصاصة وجدتها على قارعة الطريق مهملة، هي يا دكتور أبيات تشبه الشعر الجاهلي ولكنها ليست مذيلة باسم قائلها فهل لك أن تدلني على قائلها بحكم تخصصك الأدبي، الأبيات هي: قربوا لي شهادتي وارفعوها فوق رأسي كطاسة من نحاس قربوها وشمروا وألمسوها فهي حبلي بكل نجس يداس قربوها ولا تقولوا هوينا فبعاد المغشوش يؤلم رأس ربما قد يضيركم أن حظي قد أتاني في زحمة الإفلاس غير أن الحياة ملأ بمثلي عبروا دربهم بدون لباس أصيب دكتور الغفلة في مقتل عند سماعه لهذه الأبيات الساخرة والمجهولة الهوية. أخرج جواليه ففيهما وسيلة المهرب من موقف لا يحسد عليه، إلا أنه قال للأكاديمي بلغة الواثق أظن طال عمرك إن هذه الأبيات لشاعر شعبي مشهور من أهل الجنوب مات قبل ستين سنة ويدعى «بن ثامره».. تبسّم الأكاديمي وقال يا دكتور هذه أبيات فيها شيء من المعارضة لقصيدة الشاعر الجاهلي «الحارث بن عباد» والتي مطلعها: كل شيء مصيره للزوالي غير ربي وصالح الأعمال إلى أن يقول: قربا مربط النعامة مني.... وهي قصيدة مشهورة توعد فيها الزير سالم وأنهى بها حرب البسوس التي دامت أربعين سنة. أسقط في يد دكتور الغفلة وبدأ يحرك جواله ليدبر لنفسه مهرب. بدأ يتمتم للجوال بكلمات لا يسمعها إلا هو ثم قام من مجلسه وقال للجميع: إني راحل فموعد لقاء الأدباء الأسبوعي سيحل بعد ساعة وفي المنتدى ثلة من الدكاترة ينتظرون مقدمي لنبدأ أمسيتنا الثقافية والشعرية... مع السلامة. * إدارة تعليم جدة