فيما كانت قطرات العرق تنضح من وجهه، وهو منهمك في دوامة العمل.. فجأة توقفت الماكينة.. حاول إصلاحها.. لم تفلح محاولاته.. بادر بإبلاغ مشرف الإنتاج بالعطل.. باشر فنيو الصيانة عملهم.. وجدها فرصة.. تنحى جانبًا في إحدى الزوايا المجاورة.. ألقى بجسده المنهك على أحد الكراسي.. أوقد سيجارته.. أخذ يمتصها بشدة، ويعانقها بلهفة، وينفث دخانها في الأعلى.. كأنما هو في سباق مع الزمن.. اختلط دخانه بسعاله المتقطع.. أحاطت المكان هالة ضبابية من الدخان الكثيف.. بدأت تنازعه أفكاره هنا وهناك.. تراءى له طيف والدته، وزوجته، وأبنائه، وخمس وخمسون عامًا سُرقت من قطار العمر، وقد أوشكت الريح أن تلقي أوراق الشجر.. وذلك الورم لازال يكبر في دماغه يومًا بعد آخر.. وسهام الأسئلة تحاصره، وتنكأ جروحه وآلامه المزمنة.. ترى متى سيجتمع شمل أسرته تحت سقف وظل؟ وأين؟ وكيف؟ وإلى أين يسير أولاده في ظل هذا الزمن الجامح الذي يقفز فوق أحلامه وطموحه قفزًا لا هوادة فيه ولا رجعة. وبينما هو مستغرق في مصارعة آلامه وهمومه.. وبين صرير الآلات والمكائن أفاق على صوت زميله وهو يناديه من بعيد.. وبعد اقترابه منه أخبره عن طرح أحد المشاريع لبناء وتمليك المساكن لمحدودي الدخل، المعلن عنه بإحدى الصحف قبل عدة أيام.. طالبه بسرعة المبادرة والاشتراك فيه.. وتحقيق الحلم الذي طال انتظاره.. لمعت بارقة الأمل بداخله من جديد.. أخذت تلك الغمامة السوداء تنزاح عنه.. تساءل بوجل: هل ستكون هذه الخطوة البداية لتوديع إحباطات الحاضر، ومرارة الماضي..؟ أطفأ سيجارته، هبّ واقفًا.. ذهب في المساء لمقر المشروع.. استكمل كافة الشروط.. سلمهم تحويشة العمر، وما ادخره في السنوات الغابرة.. غادر المكان بعد أن تنهد تنهيدة كبيرة، وكأنما كانت جبال الدنيا تتوسد كاهله.. شعر بشيء من الانتصار.. أخذ يفتش عن حلم آخر من جملة أحلامه المؤجلة علّه يجد لها أبوابًا أخرى مشرعة. بعد مضي شهر.. جاءه الخبر الطامة.. الشركة العقارية أغلقت أبوابها ولم يعد لها أثر.. ظل صامتًا لبرهة من الوقت كأنما تسمّر في موضعه.. علت أنفاسه.. تلبسته حالة من البوح المخنوق.. أيقن أنه امتطى صهوة الحلم بفرحة جامحة، وأن عليه أن يشيع حلمه إلى الأب مهما هطل المطر، وكثر رخاؤه.. اجتر ما بقي بداخله من صبر.. نهض متثاقلاً.. تبسم ابتسامة عريضة.. علت ضحكاته الهستيرية.. أخذ يسير ببطء وهو يتمتم في حسرة وألم مرددًا: مرحى بالسارق الجديد.. مرحى بالسارق الجديد!