نهض من مكانه، حيث كان نائمًا، اتجه إلى الحمام مباشرة، جلس على الكرسي الخشبي الصغير والمنخفض، توضأ ببطء وكأنه يتحسس ألمًا منتشرًا على جلده. لم تحن الصلاة بعد ولكنه اعتاد على الوضوء تحسبًا لأي طارئ قد يحصل. سنواته الثمانون، وربما أكثر، تثقل على جسده النحيل وتجعل وضوءه يستغرق وقتًا طويلًا قليلًا. صوت ارتطام الماء على الأرض الاسمنتية الصلبة لم يوقظ زوجته المتناومة في الغرفة الوحيدة الملاصقة للحمام. كانت تنظر إليه من طرف عينها، إلى وجهه الطويل بصورة لافتة مع بروز في الفك العلوي، يعجبها كثيرا، حيث يبرز قوة اسنانه التي ورثها عن جده الكبير، الذي توفي قبل سنوات كأكبر معمر في جدة. تحدث الكثيرون عن اسنان جده القوية والتي لم تسقط الى ان ادخل القبر، كان يود أن يتفاخر باسنان جده ولكن لم يجد معجبين لمساعدته وتناسى الموضوع بسرعة. كان لحظتها يبحث بعينه في الهواء امامه، وهذه عادته دائما لا تشعر عيناه بالاستقرار. نظر إلى زوجته، التي كانت بدورها تتحاشى أن يراها ويعرف أنها ليست نائمة وأنها لم تنم أصلًا طوال الليل فقد كانت تحلم براتب الضمان منذ يومين. لكنها لا تود أن تثقل عليه. استغرابه من عدم اهتمامها يكاد يقتله حتى انه عندما نظر إليها بعد أن خرج من الحمام وهي متمددة على جنبها زاد تعجبه ألمًا من عدم اهتمامها بخروجه ليستلم راتب الضمان من البنك. خطا بضع خطوات خارج الحمام ممسكا عصاه، بشدة، وألم مفاصل يده يصر عليه لحظتها بقوة. أكثر من خمسين عاما وهما متزوجان. لا يذكر بالتحديد كم عدد السنوات ولكنه قبل عدد من السنوات شعر بأن خمسين عاما لا بد أن تكون قد مرت على زواجهما القديم ذاك. وفي عتمة النور الملازمة له أدرك أن السنوات وعدها لم يعدان من اهتماماته. كان يقيس الزمن بما يمكن أن يشاهد بنظره المجهد دائما. خلال السنوات الكثيرة تلك عرف الكثير عن طباعها وتقبل بعضها وأهمل البعض واستسلم للكثير منها. كانت فكرة التغير التي تعمل في رأسه على أنها هي الوسيلة الوحيدة التي يجب أن تُعامل بها. تزوج من امرأة صغيرة في السن ثم يغيرها كما يحلو له، وكأنها لعبة يمكن إعادة برمجتها. هكذا تصوره القديم عن الزواج وهو مستمر في هذا التصور وان كان اقل حدة وحماسا من قبل. المفاجأة أن زوجته كانت هي تميل الى نفس التصور، ولكن بمفهوم آخر. لقد كان متأكدًا أن المرأة تتحكم في زوجها كما تريد إذا عوّدته على ما تريد. فعاشا الكثير من سنوات الزواج يعملان ضد بعضهما. كل واحد يحاول أن يغير في طريقة حياة الآخر دون أن يطلب من نفسه أن يتغير أو حتى يسأل هل يحتاج الى التغير. فبقي الاثنان كما هما إلى هذا اليوم وهو ينظر إليها أثناء محاولته لبس ثوبه. لم يستطع أن يلبس ثوبه واختل توازنه وتهاوى بجوار قدمي زوجته. قفزت من مكانها عندما شعرت به متكومًا عند أطراف أقدامها. تأففت في داخلها وهي تنظر إليه. انتابتها لحظات ودت لو ركلته بقدمها ولكنها لم تفعل. استقرت في مكانها بعض الوقت إلى أن اعتدل قليلا ونظر إليها. كان تنفسه بطيئًا ويعتريه نوع من الخجل لم يظهره، وإن بدا على وجهه بوضوح. انفجرت عندها زوجته بالضحك، واندفعت نحو الجدار خلفها واستمرت في الضحك وهو ينظر إليها بحنق. شعر بالدم يتصاعد إلى وجنتيه بسرعة وحرارة الدم تتسرب من عينيه الما دفعه الى اغلاق عينه بسرعة. ارتفعت من زوجته تنهيدة تنم عن الاطمئنان ورنت إليه، بعينها، من جديد وابتسامة، هي بداية ضحكة مكتومة أخرى، أضافت المزيد من الضيق إليه وجعلته عندما فتح عينيه لمشاهدتها متأكدا انها تريد ان تتسلى هذا اليوم فقط. إصبعه السادس في يده اليمنى، المعلق بعد الاصبع الصغير، يؤلمه بشدة، بعد أن استند عليه وهو يحاول النهوض متمسكا بحافة الباب الخشبي المتشققة. نهض وانتصب واقفا ثم قرب إصبعه من عينيه الصغيرتين المتعبتين. كان زجاج النظارة قد اعتلاه بعض النمش والغبار الناعم الذي تطاير من خشب الباب. مص إصبعه من الألم ثم ادخل يده اليسرى في جيب الثوب ليخرج منديله المهترئ والنظيف ليمسح نظارتيه متأففا من الألم. جلست زوجته على كرسي عند طرف الباب وهي تتألم من ركبتيها قائلة: - الروماتزم وأنتَ .. تتعاونان علي! - أنا..؟! اجابها باستغراب حقيقي على طريقة تفكيرها العجيبة تلك. - نعم .. انت! ردت بسرعة ثم اردفت بسؤال: - لماذا تذهب الآن مرة أخرى؟ - ربما يحالفني الحظ هذا الشهر. - ستة أشهر لم نستلم شيئا. - قد يكون هذا الشهر شهر خير. - أنت عنيد. - أنا محتاج لعلاج. خرج إلى الشارع وأغلق الباب خلفه ليستقبل الهواء الحار والرطوبة تكاد تخنقه. امسك عصاته وسار على مهل. ثمانمائة ريال هي كل راتبه، هذا إضافة إلى تسعمائة ريال الراتب التقاعدي سيصبح لديه ألف وسبعمائة ريال هذا الشهر. سيشتري دواء الضغط وعلبة دهان الفيكس ويشترى المخدة الصحية التي شاهدها قبل يومين في محل الأفغاني القريب من منزله في البغدادية الشرقية. تابع سيره إلى أن وصل شارع خالد بن الوليد بجوار مطعم البيك. كان يود أن يأخذ سندوتش لكن الزحام زاد من تكاسله بعض الشيء. يعرف أن الزحام لم يكن هو المشكلة بقدر ضغط الدم الذي سيرتفع بسبب الملح في سندوتش المسحب الحراق الذي يستمتع بأكله. كانت الرائحة تسيل لعابه ومع ذلك استمر في السير إلى أن وصل إلى البنك. تحسس في جبيه بطاقة الصراف الملفوفة بورقة جريدة قديمة التقطها عند خروجه من مكتب الضمان قبل اسبوع وفرحته لا توصف عند استلامه بطاقة الصراف من الموظف بعد أربع زيارات لمكتب الضمان منذ انتهاء صلاحية البطاقة القديمة. معركة الانتظار تلك استمتع بها كعادته الدائمة. يستهويه الانتظار تمامًا وتتماهى رغبته في الاستمتاع مع نظراته في لحظات انتظاره نحو المراجعين والموظفين والكثير من الحشرات السائرة والطائرة وبعض العصافير وكل ما يتحرك ويشاهده. شعوره بالصبر واستمراره في ممارسة الصبر كان أهم ما يميزه. كان دخوله إلى مكتب الضمان أول مرة مراجعا لتجديد بطاقة الصراف مناسبة ليرى الحشود من كبار السن والعميان والمعاقين على كراسيهم المتحركة وعيون كثيرة مجهدة وصمت مخنوق يغلف الوجوه من حوله مع تعب الحياة المرتسم على جمع الاجساد. أنتابته كآبة مفرطة وجثم على صدره همّ لا يعرف مصدره. جلس على الارض بجوار الجالسين هناك في الركن بعد ان يئس من وجود مكان على الكراسي القليلة المتراصة امامه. لن ينسى لحظة وقوفه أمام الموظف. كان تحديقه في الموظف مربكا، مما دفع بالموظف الى الشعور بالتوتر والحيرة من التصرف نحو النظرات المحدقة. لم يتذكر ما قال الموظف ولكن الم تلك الكلمات محفور في ذاكرته بقسوة وتجعله يعود إلى تحسس ذلك الألم بين وقت آخر كلما اخرج بطاقةالصراف المغلفة تلك من جيبه أو تلمسها دون إخراجها. والآن ينظر الى باب البنك وهو يتجه اليه. دفعه للدخول ولكنه لم ينفتح. نظر حوله ربما يكون مخطئا في باب الدخول فنظره يزداد سوءًا مع الأيام. تأكد من ان الباب مغلق. كان جهاز الصراف بالقرب من الباب بارزا ويلمع تحت الاضواء الساقطة عليه من اعلى مضاءة. لم يشاهد الجهاز كاملا فقد كان امامه شخص ما لبث ان خرج بسرعة وخوف بسيط يعتريه وهو يشاهده يحدق به، من الخارج، بتلك العيون الواسعة والوجه العجوز. كان منظرة مرعبا فقد بدت عيناه جاحظتين وهالات من السواد تحتهما وهو ممسكا عصاه. دخل الغرفة الصغيرة ووقف امام جهاز الصراف. اخرج البطاقة من جيبه بعد ان علق عصاه على ساعده، ادخلها في الجهاز بعد ان نظر اليه متحسسا بعينيه كم هي جديدة. اتبع الخطوات التي كتبها لسحب المال من الجهاز، ولكن لم يخرج له اي شيء. حاول مرة اخرى دون اي جديد. استمر في المحاولات الى ان وصلت اربع محاولات ولكن دون اي تقدم فالمال لم يخرج من الجهاز كانت اخر محاولة بمساعدة شاب دخل معه الى غرفة الصراف متبرعا وراغبا في اسراع عمليات السحب بعد ان طال انتظاره في الخراج حينما اخبره “لايوجد رصيد في الحساب يا عم”. تنهد بحزن وخرج مستندا على عصاه الى ان وصل وجلس بجوار حارس الأمن الذي غيرت الشمس لون وجهه حيث استقبله بابتسامة صغيرة باردة وملامحه تدل على استغراب مهمل: - عدت مرة أخرى؟ - .. لم يجبه مباشرة عندما نظر إليه. شعر حارس الامن بالإجهاد البادي عليه وتعاطف معه فقد داخله حزن على التعب الجالس بجواره. قطرات العرق كانت تتفصد من جبين العجوز وقد ابتلت ملابسه الداخلية تماما وظهر بعض البلل على صدر ثوبه. تنفسه متسارع وهو ممسك عصاه التي يستند إليها في مشيته. وضع العصى امامه وأسند يده اليسرى على اليمنى الممسكة بالعصا ثم أسند ذقنه عليهما بيأس وقنوط وحيرة. أشخاص يمرون من أمامه في الطرف الآخر من الشارع. شعور بالضيق يحوم حولهما. لم يكن لديه كلمات ليجيب عليه. تراءى له الشارع كشريط طويل مميت بلا نهاية. أعمدة الإضاءة تزيده كآبة ويحبطه ضعف بصره من تميز ما حوله من الأشياء. يتحسر على الايام الخوالي التي كان يذهب فيها الى مكتب الضمان لاستلام مخصصه المالي دون الحاجة الى بنك وبطاقة واجهزة لا تعمل. شعر بان حياته تعقدت واصبح يجثم على صدره هم قبل نهاية الشهر عندما يقترب موعد صرف المخصص. لم يحب اجهزة الصراف الصامتة فهي لا تشعر بتعبه وترحمه من الخطوات التي يجب ان يدخلها قبل ان يستلم المال. منذ سنوات وهو يذهب إلى مكتب الضمان يستلم راتب الضمان كل ستة أشهر بعد أن يذهب أكثر من ستة مرات في الشهر. الى ان توفي ابنه المعاق وفراغ كبير يجده دائما امام اجهزة الصرف الخرساء تلك. وتحول الى فراغ يحيطه من كل الجهات ولا يشعره بتعب الزيارات التي يقوم بها الى البنك. حالة من الفقد متمددة بداخله تنسيه الاخرين من حوله وكأنه الوحيد على الطريق. لم يستطع ان يبكي عندما دفن ابنه، لم يستطع المعزون في المقبرة او خلال ايام العزاء الثلاثة. لقد كان ألمًا كبيرًا يضغط تماما على قدرته على الرؤيا. “ربما يودعون المال الليلة” قال له حارس الامن بجواره. كان صمته مستمرا عندما حاول ان يتكلم ولكن شعورا بعدم الرغبة في الكلام دفعه للاكتفاء بابتسامة صغيرة وملامح ألهم على وجهه زادت أكثر. همه فقط أن يستلم راتب الضمان ليذهب قبل أن يصل إلى البيت إلى اقرب صيدلية من صيدلية ليشتري الدواء. يتوقف في أقرب بقالة يشتري قارورة ماء باردة ويأخذ الدواء. كان يجلس خارج البقالة بعض الوقت يستريح ويدلك قدميه ويترك فرصة للدواء لبعض الوقت. يقضي هذا الوقت في مشاهدة الداخلين إلى البقالة على قلتهم ويتكلم بينه وبين نفسه عن أمور لا تعني أحدًا وقد لا تعنيه هو أيضا. مجرد أفكار تدور في رأسه تجعله يتأمل العمائر الساكنة بجواره والهواء المتمسح بالرصيف. ينهض بعدها ويعود إلى البيت. يدخل إلى البيت. يجد زوجته في ركن الغرفة حيث تركها تنظر إليه وهو فارغ اليدين. يذهب مباشرة إلى الحمام. عاد إلى الجلوس بجوار زوجته. كان ارتفاع أذان المغرب قويا. نهض قائلا: - سأذهب إلى الصلاة. - مع السلامة. - قد اذهب إلى مكتب الضمان ربما يكون مفتوحا. - بعد المغرب؟ - حارس البنك اخبرني انهم يعملون في بعض الأيام بعد المغرب. - ولكن الصرف لا يعمل في هذا الوقت. - قد يكون حظي جيدا اليوم. - يا رجل هذه سادس مرة تذهب إلى مكتب الضمان. - ماذا افعل؟ - اجلس وانتظر إلى الغد.. - لا استطيع يجب أن استلم راتب الضمان. - لن يعطيك احد المال اليوم. - قد يكون حظي جيدا اليوم لدي إحساس بأنه يوم جيد. - كل هذه الروحات؟ قاطعها بقوة: - لقد تعودت على الأيام الجيدة. - .. خرج مستندا على عصاه وشعور جيد يسري في كل جسمه كحلم جميل يبشر بالسعادة. جدة - السعودية 11/3/2011