جُنّ الليل على بلاد التّعاسة وتوغّلت عتمتُهُ في قلب أوكار البؤساء، والْتَحَفَ الكون السّوادَ إلا من نور القمر الذي تسلل ضياؤه خلال الغمام ليسطوَ على أحلام السّاذجين الذين راغوا إلى نومهم جياعاً. كانت عينا صابر الجازعتان تلمعان في قلب الظّلمة مع كل نَفَسٍ من سيجارته التي كانت تومض وتخبو بتناسقٍ مثير وهو يصوِّب ناظريه المتحجّرين نحو العدم، في مكان ما، في بحر العتمة التي أعلنت سطوتها على كامل الحي الحقير المنسيّ على هامش الوجود. كان يردّد في قرارتِه وهو يخنق لُفافَته المدميّة: «الليل مقبرة الضمائر!» ثم يقهقه بهستيريا غريبةٍ، في قرارته أيضاً، ثم يعود ليقبّل السّيجارة وهو ينظر حوله علّ أحداً قد انسلّ من رحم ضباب الزقاق واسترق السمع لترّهاته، وينفث الدخان ليتلاشى في فضاء الغرفة الصارخة بالفراغ والعابقة بالكآبة وبنتانة الرطوبة التي خالطها ريح التبغ الرديء. لم يكن لشيء أن يعصي مملكة الصّمت سوى تلك الألحان التي انبعثت من كوّة المقهى في طرف الحارة وروادها يترنّحون ويثرثرون ويرددون لازمة الأغنية التي تلاعبت نغماتُها بكيانهم كالدّمى التي تحركها الخيوط: «إملأ الكأسَ ابتساماً وغراما / فلقد نام الندامى والخُزاما». كان يخيل لصابر للحظاتٍ أنّ روّاد المقهى الثملين يتراقصون على لازمة «الليل مقبرة الضمائر»، فيضحك من فرط تعاسته للحظة، ثم يعود ليحرق السيجارة ومعها الدقائق التي انسابت وهي تمشي الهوينا على إيقاع خطى الثمالى، نحو ميلاد صباح جديد من البؤس والضياع، واستسلم صابر للسبات في مقبرة الليل والضمائر، وعند سَريرِه منفضة تعالى منها دخان خافت للفافة محتضرة، تحولت مقبرة لعشرات السجائر.