كتب أحد الكُتَّاب في صحفنا مقالًا عنون له بعنوانٍ لم يُوفق أبدًا في صياغته، إذ كان العنوان: (الشرع في مأزق مع DNA)، وهو عنوان أقل ما يُقال فيه: إن فيه عدمُ فهمٍ للشريعة وجهلٌ بأحكامها! فهل يصح أن يُقال: إن الشرع وقع في مأزق، وهو من عند الله العليم الخبير بما كان وسيكون؟! سبحانك هذا بهتانٌ عظيم. إن القضيةَ التي طرحها الكاتب ويظنُها جديدة، ويظن أن الشرعَ لم يحسم أمره فيها وأن فقهاءِ الشريعة المتقدمين والمعاصرين لم يتناولونها بالبحث والنظر، وليس الأمر كما ظن الكاتب، وهذه هي المشكلة التي يقعُ فيها بعضُ الكُتَّاب أنَّه يكتب دون بحثٍ أو سؤال، ودون فهمٍ صحيح لأبعاد المسألة وأصلها! ثم يحكم من خلال فكره ومعرفته المحدودة الضيقة ويأتي بالعجائب! ثم يلوم العلماء وعامة المتلقين إذا انتقدوه ونصحوه! إن الزوج إذا ادّعى نفي نسب أحد أبنائه من زوجته؛ واعتمد في ذلك على العلم التجريبي أو اختبار الحمض النووي، والذي قد يُصحِّح هذه الدعوى، مسألة حكم في الشرع ولم يقع في مأزق مع العلم أو غيره، كما تصوّرَ هذا الكاتب! فقد نصّ اللهُ العليمُ الحكيم: أن من قذفَ زوجته بالزنا فحمكُه وحكمُها في اللعان وهو الطريق الوحيد الذي يثبت به نفي النسب، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِين * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ). وسبب نزول هذه الآية أن الصحابي هلال بن أمية رضي الله عنه رمى زوجته بشريك بن السحماء رضي الله عنه، فنزل حكمُ الله في اللعان، ونفى الشرع نسب الولد عن أبيه وأقام اللعان مقام البينة وقصرَ البينة عليها. وهذا ما أجمعت عليه الأمة، وهو ما نصَّ عليه قرارُ مجمع الفقه الإسلامي الذي يضم كبارَ فقهاء الأمة من مختلف أنحاء المعمورة وجاء فيه: (لا يجوزُ شرعًا الاعتماد على البصمةِ الوراثية في نفي النسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان. فلو أن شخصًا شك في نسبِ ابنه إليه فذهب وحلل الحمض النووي أو البصمة الوراثية، فوجد أنه لا ينسب إليه، فإنه لا يعتمد على هذا شرعًا في نفي النسب، وإنما إذا أراد أن ينفي هذا الولد عنه فالطريق الشرعي لذلك هو اللعان). وكما أن للشرع أحكامُه؛ كذلك له مقاصدهُ التي لا تنفكُ عن هذه الأحكام، والمسلم الذي أسلمَ أمره لشرع الله يقف من أحكامِ الله الثابتة موقفَ المُذعن المُسلِّم، ولا يجدُ في نفسه حرجًا أو شكًا في صلاحية هذا الحكم وصحته، ثم يبحث إن أرادَ واستطاع عن المقصد الشرعي والحكمة التشريعية، ومن مقاصد الشارع العامة في قضايا النسب: أن الشارع الحكيم متشوفٌ إلى إثبات الأنساب التي نشأت في عقدٍ صحيح لا إلى نفيها، ومنها أن الشارع متشوفٌ للسترِ على المؤمنات وعلى سمعة بيوت المسلمين، فلو فُتِحَ باب التحاليل والمختبرات وصُدِّقَ كلٌ بدعواه دون ضوابط شرعية دقيقة لوقع الناسُ في تشتت وحرج والشريعة ما جاءت بهذا ولهذا أبدًا! وعدم اعتبار التحليل المخبري في هذه المسألة؛ لا ينبغي أن يُفهمَ أن فيه تقليلٌ من مكانةِ العلمِ التجريبي أو عدم مبالاة الشريعة به، بل إنّ ما من شريعة قدّرت العلم والعلماء كشريعةِ الإسلام، والشرعُ يعتبرُ العلمَ في الأحكام الشرعية في المجال التي يسمح به الشرع، وكثيرٌ من نوازل ومستجدات العصر لا يفتي بها الفقهاء إلا بعد تشخيص المسألة من العلماء بحسب طبيعتها إن كانت طبية أو اقتصادية أو غير ذلك ثم يُنزّلُ الفقيهَ قواعدَ الشرع وأدلته على هذه الواقعة. ويمكن أن يستفاد من البصمة الوراثية كما قرّرَ أهلُ العلم في إثبات الجرائم، في اعتبارها وسيلة لإثبات الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص، وإنما استثنيت الحدود الشرعية؛ لأنها تدرأ بالشبهات ولكن في غير ذلك يمكن أن تعتبر وسيلة من وسائل إثبات الجريمة.