شرفتُ وسعدتُ بالمشاركة العلمية في المؤتمر العالمي (ظاهرة التكفير) في المدينة النبوية، والذي قامت بتنظيمه مشكورة جائزة نايف للسنة النبوية، بمشاركة جامعة الإمام محمد بن سعود، وقد ضمّ حشدًا كبيرًا من العلماء والأساتذة والباحثين، وفي تخصصات مختلفة (الشريعة والتربية وعلم النفس)؛ لبحث تفشي ظاهرة التسرّع والتمادي في التكفير، أو التفسيق سواء للأفراد، أو المجتمعات، أو الأنظمة، وبحث ومناقشة أسباب هذا الداء وآثاره وسبل معالجته، وقد وُفِّقَ المنظمون أيّما توفيق في الإعداد والتنظيم وحسن الاستقبال والضيافة، وكذلك في أسلوب إدارة الجلسات، وعرض البحوث وكذا مناقشتها، فقد استوفى التنظيمُ وسعه حتى خرج المؤتمرُ في صورةٍ تليق بتلك الرعاية الملكية من خادم الحرمين وفقه الله. وبعد انتهاء أعمال المؤتمر الكبير، خلصتُ وخَلُصَ الباحثون إلى أن (التكفير) حكمٌ شرعيٌّ عظيم الأثر دقيق المأخذ لا يمكن إلغاؤه كما لا يجوز الخوض به من كلِّ أحد! فهو باعتباره حكمًا شرعيًّا لا يمكن تطبيقه، أو تنزيله على أحد حتى تتوفر أسبابه الشرعية الصحيحة، وتنتفي موانعُه، ولا يحكم بهذا ولا يستطيعهُ إلاّ العلماء الراسخون، وقد حرصتُ في ورقتي المقدمة أن أؤكد أن الحكمَ بالتكفير هو من مسائل الفقه، وأن الفقهاء ناقشوا التكفير أو الردة في كتبهم، وهم أعلمُ الناسِ بتوفرِ الأسباب، وانتفاء الموانع، وأنه -وللواقع الذي نعيشُه ولخطورة هذا الأمر ولآثاره الخطيرة المترتبة وسدًّا للفتنة- ينبغي أن يُنقل التكفير من باب الفتوى المجردة إلى باب القضاء، فمسألةٌ بهذا القدرِ من الأهمية والدقة والآثار الخطيرة لابد فيها من بحث تحقق الأسباب من جهة المُكفَّر، ومن جهةِ مناط التكفير، وصحة هذا المناط، وهذه المسائل لابد فيها سؤال وتحقيق ونظر، ولا يقوم بهذه إلاّ قاضٍ. ومَن قامت عنده شبهة تكفير فالأصل عدمه؛ لأن الأصل الشرعي القطعي، أو اليقين لا يزيله الشك واليقين هو سلامة المسلم من الكفر أو الفسق. ومن جميل ما ذُكر في بحوث المؤتمر -وقد قررتُه في بحثي- أن تطرفًا آخرَ لابد من معالجته ونقده وتخطئته في الوقت نفسه الذي ننتقد فيه ذلك الخائض في التكفير، وأعني كتابة ما يكون تجاوزًا لمحكمات الشرع، ومناقضةً لأدلته القطعية، حتى لا يكون الثاني سببًا في وقوع الأول! والذي أرجوه بعد هذا الجهد العلمي والتنظيمي الكبيرين أن لا يقفَ المؤتمرُ عند حدود التوصيات والبيانات، وأقترح: أن تتم عرض جلسات المؤتمر في عددٍ من القنوات الفضائية، وأن يتم تلخيص بحوثه الكثيرة في كتابٍ واحدٍ يسهل قراءته وتوزيعه، وأن ينتخب من البحوث والباحثين عددٌ معيّن لينقلوا تجربة وخلاصة المؤتمر للشباب في الجامعات والمدارس حتى تعم الفائدة، ويتحقق القصد بإذن الله. ومن الأمور المهمّة أيضًا: أن يهتمَ العلماءُ وأساتذةُ الجامعات في تربيةِ طلبة العلم، والشاذين فيه على قواعد الشرع، ومقاصده الشرعية، وأن يعتنوا بمنهج العلماء في فهم النصوص وتفسيرها وتنزيلها على الوقائع.