من الواضح أن حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب أرودغان ورفاقه وضع بصمات واضحة في مسيرة تركيا الجديدة. فبعد النجاح الذي حققه في الانتخابات للمرة الثانية اتضح أن الأغلبية من الشعب التركي تريد التغيير بالطرق السلمية عن قناعة بأن حكومتها تسير في الطريق الصحيح. إصلاح اقتصادي.. رفع من مستوى الدخل القومي وتحسن كبير في دخل الفرد.. وإصلاح إداري تَغلَّب على الفساد الإداري، وحقق وفورات مالية كبيرة لخزينة الدولة. وبعد الاستفتاء تعديلات جوهرية في الدستور استطاع أردوغان وحزبه أن يقنع عامة الشعب التركي بأن مكان الجيش في الثكنات العسكرية حتى يحين وقت الاستعانة به لحماية الوطن من العدوان الخارجي.. أما اللعبة السياسية فمكانها البرلمان وصناديق الاقتراع وتداول السلطة بالطرق السلمية. ولعل المُحرِّك الرئيسي لما حصل في تركيا سببه رفض بعض دول الاتحاد الأوروبي قبول عضويتها ما لم تقم بعمل إصلاحات جوهرية ظنها البعض مستحيلة - ولكنها كانت شروطًا أساسية للقبول المبدئي للعضوية في التجمع الأوروبي - بصفة تركيا تميّزت بوضعها الجغرافي الذي جعلها سيدة «مضيق البوسفور» الذي يربط القارتين أوروبا شمالًا وآسيا جنوبًا. ولكن ذلك لم يكف لقبول عضويتها في النادي الأوروبي الموسع، حيث كانت العقدة ولا تزال.. كونها دولة مسلمة.. تحمل تاريخ الإمبراطورية العثمانية الإسلامية التي دقَّت أبواب «فيينا عصمة النمسا» مرتين - في القرن السابع عشر الميلادي - ولو حالفها الحظ لكان الوضع في أوروبا خلاف ما هو عليه في الوقت الراهن. أوروبا المسيحية تريد أن تحافظ على نقاوة القارة العجوز تحت الصليب، لأن رمز الهلال والنجمة يؤرقها بقوة الإسلام وجاذبيته عندما تخضع الأمور للتحليل العقلاني وتكون السياسة محايدة. وما آلت إليه الأمور تدفع المرء أن يُردِّد المَثَل العربي القائل: «رُب ضارّة نَافعة»، حيث نتج عن الضغط الأوروبي تذكير الأتراك بعمقهم الإسلامي وجوارهم العربي الذي هو بدون شك مصدر عزّهم تحت راية الإسلام، حيث استمرت التجربة ستمائة سنة، ورغم انقلاب أتاتورك عليها - في بداية القرن العشرين الميلادي - ما زالت الأغلبية مسلمة.. ولم يتغيّر إلا اللغة التي كان تغيير الكتابة إلى الحروف اللاتينية ضربة موجعة لتاريخ سبعمائة سنة سُطِّرَ بأحرف اللغة العربية. ومن أروع المآثر التي يجب أن تُذكر للشعب التركي - رغم التقلبات السياسية والانقلابات العسكرية - المحافظة على التراث الإسلامي.. وصيانة المساجد التاريخية.. وإبقائها معالم حضارية.. شاهدةً على التاريخ الإسلامي.. وتخليدًا لرجاله. لقد نجح حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب أرودغان وعبدالله غول في اختبار ترتيب البيت من الداخل.. ديمقراطية وحكومة مدنية، تأتي من خلال انتخابات حرة ونموذج معاصر لتداول السلطة، وإعادة الهيبة والاحترام لشعب مسلم يعتز بانتمائه لدين الإسلام. والمرحلة الثانية مشاركة تركية في هموم المنطقة على قدم المساواة مع باقي الدول العربية وبدون استعلاء، وفي نفس الوقت مواصلة الجهود لدخول السوق الأوروبية وليس على حساب المصالح والعلاقات الإسلامية والعربية. وبعد هذا تطرق الأسئلة التالية: كيف سننظر نحن العرب للمسيرة التركية؟! وما الدروس المستفادة التي ينبغي أن ننظر إليها بإيجابية؟! حتى نستفيد من التجربة، ونتغلب على عقدة الانتخابات والتيارات المذهبية، وكيف يُمكن أن نتعامل مع نتائج الانتخابات والتوجسات القائمة حاليًا من الحراك الدائر في تونس ومصر، وفي أماكن أخرى من العالم الإسلامي؟! التجربة التركية بدون شك جديرة بالاهتمام من قبل الدول العربية بصفة خاصة، والدول الإسلامية بصفة عامة للاستفادة منها، لأن الوقت يمر بسرعة، وتغيير القيادات قد يُؤثِّر سلبًا وإيجابًا في مسيرة التاريخ، لأن كل شيء في زمن العولمة قابل للتراجع مثلما هو قابل للسير قدمًا. والمقصود هنا الإصلاح.. بدون اقتتال وسفك دماء وتدمير منشآت، مثلما يحصل في ليبيا واليمن وسوريا.. والتجربة التركية نجحت في تجنب ذلك الطريق الوعر، حتى استطاعت الوصول إلى وضعاها الحالي، ولعلها تصبح نموذجًا يحتذى.. والله ولي التوفيق. [email protected]
للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (23) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain