بين آونة وأخرى تنطلق فتوى من هنا أو هناك تطبق الآفاق وتشغل الناس حينًا من الدهر، وتنشأ سجالات فكرية عنيفة حول قضايا التدين والتمدن يخيل للمرء أن تعارضًا لا بد أن ينشأ بينها، إضافةً إلى مصطلحات جرت إقصاءً وفرضت مفاهيم لم تمحص بالقدر الكافي كما في مصطلح «الفرقة الناجية»، ومصطلح «المواطنة». حول هذه الأفكار وغيرها نحاور الشيخ العلامة محمد بن الحسن الددو العالم الموريتاني ورئيس مركز تكوين العلماء في موريتانيا محاولين استجلاء إحدى وجهات النظر الشرعية في تلك القضايا المطروحة.. أبدأ معك شيخ محمد بموضوع الفتوى وحدود استخداماتها على المستوى الفردي وعلى المستوى العام، في بعض المجتمعات هناك ما يمكن أن يسمى «هوس الفتوى» في كل صغيرة وكبيرة على مستوى أفعال الفرد وكذلك على مستوى الأحداث العامة، هل الفتوى تدخل في كل المجالات؟ ** ** إطلاق الفتوى هو المشكلة وليس هوس الفتوى، فالناس يطلقون على كل سؤال عن أمر من أمور الدين فتوى وهذا ليس صحيحًا؛ لأن المقصود بالسؤال التعلم، والتعلم ليس هوسًا بل هو مطلوب شرعًا والله يقول «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون»، فعلى الإنسان أن يسلم الحكم لله وألا يقول في أي أمر بما لا يعلمه، فإذا جاءه أمر لا يعلمه وجب عليه أن يسأل أهل العلم وألا يقدم على ما لا يفقه لأن الله تعالى قال «ولا تقف ما ليس لك به علم»، لكن هذا السؤال قد لا يكون استفتاءً في كل الأحوال لأن الاستفتاء معناه سؤال عن حادثة جديدة ليست عرضة للقضاء، فالفتوى هي الإخبار بالحكم الشرعي لا على وجه الإلزام، وتختص بما لا ترافع فيه فهي ليست ملزمة لأن المفتي ليست له سلطة، وصلاحيته مجرد بيان الحكم، كذلك الفتوى لا تكون في المتنازع فيه لأن المتنازع فيه مرفوع للقضاء والذي يحله هو القاضي بالسلطة والقهر، فهذا فرق بين الفتوى والقضاء؛ فالقضاء هو إخبار بحكم الشرع في المتنازع فيه على وجه الإلزام. لكن هل يلزم أن يسأل عن الحكم الشرعي في كل مجال خاص وعام؟ ** ** نعم كل ما يعرض للإنسان وجب أن يسأل عن حكم الله فيه. لأنه ما من حادثة إلا ولله فيها حكم، والمكلف منذ كلف بدأ الملكان يكتبان عليه تصرفاته، لذلك من المهم ألا يقدم على شيء حتى يعلم حكم الله فيه. وما موقع حديث «استفت قلبك ولو أفتاك الناس وأفتوك»؟ ** ** هذا الحديث لمن كان من أهل الإيمان والورع والتقوى إذا شك والتبس عليه أمر أن يستفت قلبه احتياطًا، وليست ملزمة له وإنما هي من باب الاحتياط، وليس هذا لكل الناس فلو قيل لكل أحد لكان أهل رقة الدين وأهل الخلاعة يأخذون بما يوافق هواهم. ألا يعطي هذا سلطة لرجال الدين على الناس؟ ** ** يعطي سلطة للشرع وليس للرجال فالسلطة لله ولرسوله. لكن من سيتكلم بحكم الله ورسوله هم العلماء؟ ** ** هم سيبلغون وليست لديهم سلطة الردع أو القهر، فهذا للحكام. والعلماء يبلغون عن الله ورسوله وإذا كان الإنسان مؤمنًا سيزعه إيمانه، فإذا عرف دليله وجب عليه العمل بالراجح. لكن في أحيان كثيرة تتطور قضايا الاستفتاء إلى «صراع فتيا» مثل ما حدث في بعض القضايا العامة كالجدار العازل بين غزة ومصر وغيرها من القضايا العامة؟ ** ** هذا إملاء سياسي وليست فتوى، نحن لا نتكلم في أن العلماء قد يستغل بعضهم، وهم بشر مثل غيرهم ليسوا معصومين. قد يستغل بعضهم وقد تملى عليهم مواقف ليست هي حكم الله، لكن أقصد من يبين حكم الله ورسوله فليست السلطة منه وإنما هو مبين، والله يقول: «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» والعالم لا يحق له أن يتقول على الله ولا على رسوله و لا أن يقول بغير علم، وقد جعل الله القول عليه بغير علم معادلًا للشرك «..وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون» فمن قال على الله بغير علم أو خالف علمه اتباعًا لهواه أو إرضاءً لأي إنسان فهو عاص فاجر في ذلك، لكن لا يحسب ذلك على الفتوى وإنما على تصرفات الأفراد. التعددية الفكرية التعددية الفكرية في الإسلام كيف نفهمها في ضوء أحاديث مثل «تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة»؟ ** بالنسبة للتعددية ليس هناك دين حمى التعددية مثل الإسلام، هذا الدين الذي جاء بالاجتهاد وفتح بابه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر» وجاءت التعددية حتى في قراءة القرآن «إن هذا القرآن أنزل علي على سبعة أحرف فلا تختلفوا فيه» وعندما اجتهد أصحابه في مناداته يوم الأحزاب «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة» فاجتهد بعضهم وصلى في المدينة واجتهد آخرون فأخروا صلاة العصر إلى وقت العشاء، وأقر الجميع على اجتهاداتهم، وهكذا فالإسلام هو الذي جاء بالتعددية في الرأي، ولا يدخل فيها الثوابت والأصول التي هي وحي من عند الله، فهذه لا تتزلزل ولا يمكن أن يقع فيها تعدد، لكن ما سوى ذلك من المسكوت عنه شرعًا وهو أكثر من المنطوق به فهذا للعلماء فيه الاجتهاد، وكل من كان مؤهلًا للاجتهاد يثاب على اجتهاده؛ إذا أخطأ فهو معذور في خطئه وإذا أصاب فله أجر الاجتهاد وأجر الصواب. هل تدخل في دائرة التعددية هذه الكيانات والتيارات الإسلامية والسياسية وغيرها؟ ** تدخل في التعددية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية في مختلف المجالات إلا ما خالف ضابطًا من ضوابط الشرع التي لا تقبل التبدل ولا التزحزح، فهذه ليست فيها تعددية لأنها محسومة من عند الله وليس لنا فيها خيار، لكن كل ما لم يحسمه النص المنزل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام سواء كان قرآنًا أو سنةً ولو كان اجتهادًا لأبي بكر أو عمر فهو باق في مجال التعدد. هذا في إطار الدائرة الإسلامية الواحدة لكن في إطار التعددية الدينية في بعض المجتمعات العربية؟ ** لا إشكال حتى في الأمور الدينية إذا اختلفنا في أمور سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ليست من ثوابت الشرع فلهم الحق أن يدافعوا عن رأيهم ويمكن أن ينتصروا ويمكن أن يصوت لهم بعض المسلمين. لأن الآراء في ذلك من أمور الدنيا، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: «ماكان من أمر الدين فإلي وما كان من أمر دنياكم فأنت أعلم بأمور دنياكم». وهذه تدخل فيها الاجتهادات الاقتصادية والاجتهاد في جزئيات إدارة الحكم لا كلياته لأن هناك ثوابت محسومة في الشرع من ناحية ثوابت الحكم. أما الحديث الذي أشرت إليه ويستدل به كثير من الناس «تفترق أمتي..» فإنما يصح أصله بشواهده وليس له أية رواية صحيحة لذاتها، إنما يصحح الأصل بالشواهد، والشواهد لا تشهد لأطراف الحديث، فالطرف الذي ذكرته «كلها في النار إلا واحدة» لا يصح، مثل الطرف الذي فيه «كلها في الجنة إلا واحدة» لا يصح أيضًا. وما يصح هو «افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى إلى ثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة» هذا القدر الذي يصحح بالشواهد لأنه كثر من رواية عدد كبير من الصحابة؛ فلذلك كان له أصل متين فصححنا هذا القدر، أما الزيادات وهي الأطراف التي ينفرد بها كل راوٍ وحده فلا نصححها إلا إذا جاء معها هذا العدد من الروايات الكثيرة، ولم يأت لهذه الأطراف؛ ولذلك لا تصحح أطراف الحديث المختلفة وإنما يصحح أصل الحديث المشترك بين كل هذه الأحاديث. يعني ما يصح هو وجود أصل الفرقة فقط؟ ** نعم، والفرقة لم تأت في معرض الذم لأمة محمد عليه الصلاة والسلام وإنما جاءت في معرض مدحها بالكثرة والزيادة، فنحن أكثر من اليهود والنصارى. معنى هذا أن الحديث جاء للمدح وليس للذم؟ ** نعم الحديث مدح لا ذم. فهذه الديانات الثلاث أهلها هم أكثر الديانات اليهود والنصارى والمسلمون، والمسلمون هم أكثر أهل الديانات، والرسول عليه الصلاة والسلام لما عرضت عليه الأمم رأى كثرة أتباع موسى فظن أنهم أمته فقيل لا ولكن انظر إلى الأفق فنظر فرأى سوادًا قد سد الأفق فقيل له «هذه أمتك ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب» وأيضًا أتباع المسيح عليه السلام ضمن لهم الكثرة فقال تعالى: «وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة»، إذن هذه الديانات الثلاث فيها كثرة وفرق كثيرة وتعددية وانتشار. لكنك بذلك يا شيخ محمد تقلب مفهومًا سائدًا لعقود طويلة؟ ** نعم كثير من الناس يظن هذا ذمًا وهو ليس كذلك. يرتبط بهذا الحديث مفهوم «أهل السنة والجماعة» التي هي الفرقة الناجية كما ورد في بعض الأحاديث؟ ** بالنسبة لتحديد الفرقة الناجية هذا أمر غيبي معناه أن الله يختار من عباده من يتقبله ويدخله الجنة، ونحن نعلم قطعًا أن من الناجين محمد عليه الصلاة والسلام والذين شهد لهم بالجنة، لكن من لم يشهد له رسول الله بالجنة نرجو له ونخاف عليه، جميع من شهد «أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله» ومات على ذلك سيدخل الجنة مهما كان، على ما كان من عمل، فالله مدح هذه الأمة مدحًا شاملًا لجميع طبقاتها وشرائحها فقال: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير، جنات عدن يدخلونها»، جميعهم على ما كان من عملهم، لكن منهم من يدخل النار قبل ذلك ويخرج منها بإيمانه، ومنهم من لا يدخل النار أصلًا فيكفر الله عنه سيئاته إما بالتوبة النصوح والعمل الصالح وإما بعذاب القبر وإما بشفاعات الشافعين يوم القيامة، وهكذا، «هم درجات عند الله»، «وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا»، «إن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءاى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء» بعض الكواكب بعدها عن الأرض خمسمائة سنة ضوئية، فالجنة واسعة سعة غير متخيلة. ولا يمكن أن نحدد نحن مذهبًا أو مدرسة أو فرقة أو طائفة جمعهم أمر اجتهادي فنقول هم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة لأننا حينئذ نشهد لهم بالجنة. استيراد المفاهيم الغربية يدور جدل حول بعض المفاهيم الغربية مثل الحرية والمواطنة والدولة المدنية؟ ** هذه ليست مفاهيم غربية هذه مفاهيم إنسانية وجاءت بها الديانات السماوية، والله سبحانه وتعالى ضمّن كثيرًا منها تفصيلًا في كتابه، والرسول عليه الصلاة والسلام بينها كذلك؛ فالله حرر البشر من العبودية للأغيار وعبدهم لنفسه وجعلهم جميعًا عبادًا له. لكننا استوردناها من الغرب؟ ** لا بل استوردها المتغربون الذين ليس لهم مصدر إلا الغرب، أما نحن فلنا مصادرنا الأخرى التي نستورد منها، وقد جاءتنا الحرية في كتاب ربنا فحررنا الله من العبودية لغيره وحررنا من الخرافة وحررنا من الدجل وحررنا من السحر وحررنا من تبعية الجن وحررنا من تبعية الأهواء وحررنا من تبعية الشهوات وحررنا من تبعية الشبهات وأعتق رقابنا من كل هذه القيود البشرية. وأعطانا حرية التفكير والتعبير والتنقل والتملك. لكننا نحن الآن نعود إلى مصادرنا على ضوء ما فهمناه من تطبيقات الغرب؟ ** هذا بسبب الانهزام واتباعنا للغرب، وإلا فالغرب أخذوا منا. أغلب الحريات الموجودة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أعلنته الثورة الفرنسية مأخوذ من الإسلام إما من تطبيق المسلمين الذين حكموا أوروبا في الأندلس أو مما اقتبسوه من كتب المسلمين وفلسفاتهم. كذلك مفهوم المواطنة مما جاء به الشرع ونصت عليه وثيقة المدينة وهي أول عمل قام به رسول الله عليه الصلاة والسلام بعد بناء المسجد. لكن هذه التطبيقات لم نتنبه لها نحن إلا بعد ما رأيناها في تطبيقات الغرب؟ ** من تقصد ب (نحن) إذا قصدت أشخاصنا فنعم بعض الأشخاص المبهورين بالغرب كذلك، لكن إذا قصدت نحن المسلمين وأمة الإسلام فنحن أول من انتبه لهذا، أول عمل قام به الرسول عليه الصلاة والسلام بعد بنائه المسجد هو وثيقة المدينة وهي وثيقة المواطنة بين المسلمين من المهاجرين من قريش وبين المسلمين من الأوس والخزرج وبين اليهود المقيمين فيها والأعراب المقيمين في أطراف المدينة. إذا سلمنا بأن أصل هذه المفاهيم موجود لدينا لكن تطبيقاتها وتفريعاتها تجاوزنا فيها الغرب كثيرًا؟ ** هذا التجاوز لا إشكال فيه، التجاوز أمر طبيعي بحسب تطور الزمن مثل ما تجاوزوا في أمور أخرى صناعية، ونحن يمكن أن نستورد الأمور الصناعية منهم وليس لدينا غضاضة في هذا. هل يمكن أن نأخذ تطورهم في أمور مثل هذه؟ ** يمكن، الرسول أخذ فكرة الخندق من حضارة فارس وفكرة الخاتم من حضارة الروم وفكرة المنبر من حضارة الحبشة. هذه أشياء مادية لكن نحن نتكلم عن أشياء فكرية وفلسفية؟ ** ليس هناك فرق، أي شيء نافع لم يرد فيه نص بنفيه وهو وسيلة لتطبيق النص الموجود فلا مانع من تطبيقه مثل الدولة المدنية. لكن مثل هذه المفاهيم جاءت ضمن منظومات متكاملة كمنظومة العلمانية مثلًا إما أن تأخذ هذه المنظومة كاملة أو تدعها كاملة؟ ** هذا الخيار ليس حتميًا نحن يمكن أن نأخذ ما يوافق ديننا وما نقبله وما سواه علينا رفضه.