على الرغم من عدم وجود إحصاءات تتناول أعداد الهائمين على وجوههم أو «مرضى الشوارع» من المصابين باعتلالات نفسية مختلفة، إلا إننا نلاحظ انتشارهم وتواجدهم في مواقع عدة داخل المدن الكبيرة، بل وحتى في بعض القرى والهجر، فهم لم يجدوا عينا ترعاهم أو مقرا يأويهم سوى الطرقات الرئيسة وظلال الجسور والأشجار. والغريب أن البعض منهم يرى أنه أفضل الناس، وهو وحده على صواب، ومنهم الانطوائي الذي يخاف التحدث مع الناس مفضلا العزلة التي يعيشها، وعلى النقيض هناك العدواني الذي لا يرغب في التحدث مع أحد لكثرة انشغاله بما يدور في مخيلته. ورغم كل هذا وذاك يظل هؤلاء إخوة لنا جعلهم القدر يهيمون في الشوارع والطرقات بعد أن فقدوا الثقة والاتزان اللذين قابلهما إهمال وتخلي العائلة عنهم، فضلا عن قصور المجتمع وبعض جهات الاختصاص في التعامل مع حالاتهم، فلم يجدوا سوى عشش صمموها لتكون مقرًا لهم بعيدا عن الضوضاء وإزعاج الفضوليين. «المدينة» قامت بجوله ميدانية في عدد من شوارع جدة والتقت عددا من الهائمين على وجوههم وثمة أسئلة حائرة على ألسنتهم (من نكون ؟ ، ولماذا نحن هنا ؟ ، أين ذوونا ؟ ، ولماذا لا يهتم بنا أحد ؟). حوار ب 20 ريالاً البداية كانت مع (ح ، أ) وهو يتجول في أحد المقاهي الشعبية جنوبجدة، وحين طلبنا منه التحدث معه، رحب ولكن بمقابل مادي، بحجة أن لدية أشغالا كثيرة، ودون انتظار لأي تفاصيل أخرى بدأ يسرد حكايته موضحا أنه كان يعمل في القطاع العسكري. وقال بعد صمت رهيب: «معصية الرحمن سبب ما أنا فيه، وتعاطي المخدرات أثر على صحتي ودمر حياتي». وحينما سألناه عن أهله أجاب: «لي سنتان في جدة، وأهلي في محافظة النماص لا أعلم عنهم أي شيء». انتهى الحوار ولكن الأمر لم ينته بعد بالنسبة ل (ح ، أ) حيث رفض أن نغادر إلا بعد دفع مبلغ التصوير الذي حدده ب 20 ريال. إياكم والحسد وتحت جسر الستين التقينا أحدهم رفض ذكر اسمه مدعيا أنه من «الأولياء»، وأخذ يتحدث عن الولاية والتحريم والتحليل، وطلب منا أن ننصح الناس عن ما هم فيه، وترك الحسد وأكل أموال بعضهم البعض - على حد قوله - عندها قال لي زميلي المصور «أتوقع أنه كانت لديه أموال وفقدها، وهو ما أثر فيه». غادروا المكان وأسفل الجسر ذاته وجدنا رجلين تجاوزا الأربعين عاما، اقتربنا منهما وطلبنا التحدث معهما، فاستجاب الأول متحدثا عن نفسه وبطولاته، وفي هذه الأثناء استيقظ صديقه وطلب منا المغادرة، وعندما لم نستجب لرغبته أصبح يتصرف وكأنه يبحث عن شيء ليقذفنا به، مما جعلنا نعجل بالرحيل لأن أمثال هؤلاء ليس لديهم قدرة للتحكم في تصرفاتهم. موعد هام للشاعر وهذا (ي) لم يجد مكانا يحتضنه سوى هذه الخيمة البالية والتي لا تحمي من لهيب الشمس صيفا أو برودة الجو شتاء، وما إن علم بأننا صحافيون ، بدأ يردد أبياتا شعرية وكأنه من فطاحلة الشعراء. سألناه عن أهله فقال: «لا أعلم عنهم شيئا، فأنا مرتاح في منزلي»، وطلب منا زيارته في وقت آخر لأن لديه موعدا هاما الآن. «الصحة النفسية»: دار لإيواء المرفوضين من ذويهم أوضح مدير مستشفى الصحة النفسية بجدة الدكتور سهيل عبدالحميد خان أنه سيتم قريبا افتتاح دار نقاهة المرضى النفسيين لاستيعاب المرضى المرفوضين من أهلهم والهائمين في الشوارع بمنطقة مكةالمكرمة، وذلك بطاقة استيعابية قدرها 70 سريرا. وبين أنه تم استئجار المبنى وتأثيثة وجارٍ مناقلته من الشؤون الاجتماعية إلى وزارة الصحة حسب قرار مجلس الوزراء. وأضاف أنه من المفترض أن تحل مشكلة الهائمين على وجوههم في الشوارع، وهم مرضى الاضطراب الذهاني المزمن وفاقدو الأهلية والبصيرة تجاه أنفسهم والدعم الأسري، وهو ما جعلهم يقطنون الشوارع مشكلين خطورة على المجتمع. أخصائية نفسية: « الهائمون» مسؤولية المجتمع بكامله الأخصائية النفسية سميرة الغامدي شددت على أن مشكلة الهائمين في الشوارع مسؤولية المجتمع بأكمله، ولا تقع على جهه دون أخرى. وقالت: لديناء دائما إشكالية في معرفة المسؤولية، خاصة بالنسبة للهائمين فهي مسوؤلية مشتركة بين جميع الجهات التي تعمل في الحفاظ على المجتمع، وتبدأ هذه المسؤولية من الأسرة فهي التي رفضتهم ولم تتفهم إعاقتهم، فإذا أدركت الأسرة دورها تكتمل المسوؤلية بين جميع الجهات المناطة بها (الشؤون الاجتماعية، الجمعيات الخيرية، الصحة، والشرطة). وأضافت: يجب علينا أن نجد حلولا لهذه المشكلة من خلال إيجاد خطة مشتركة بين جميع الجهات المعنية، وبالتالي الاتفاق على آلية لاحتوائهم ليس فقط بإيجاد دار تحتضنهم، بل يجب تفهم مشكلاتهم وتوفير كافة الاحتياجات في الدار الحاضنة لهم لتساهم في إعادة تأهيلهم، لذلك يجب أن يكون هنالك إشراف طبي عليهم في هذه الدور، وأن يكون هناك دعم مالي واجتماعي، إضافة إلى نوع من التأهيل والتمكين بحيث يتم تعليمهم مهنة تفيدهم ويتم دمجهم بالمجتمع. وكذلك يجب تحسين وضع أسرهم لتعود إلى احتضانهم بدلا من تركهم في الشوارع. وعن مدى خطورتهم على المجتمع طالبت د. سميرة بعدم التفكير في هذا الأمر، بل يجب التفكير في كيفية توفير احتياجاتهم الإنسانية وتوفير سبل العيش بكرامة لهم، لأن الخطورة قد تحدث أحيانا من إنسان سوي. الشرطة: الإحالة ل «الصحة النفسية» خطوة أولى لاحتواء الحالة المتحدث الرسمي لشرطة جدة العميد مسفر الجعيد أوضح أن الدوريات الأمنية تقوم بعملها المعتاد مع المرضى النفسيين، وذلك بإحالتهم إلى مستشفى الصحة النفسية، حيث يتم استدعاء الهلال الأحمر بينما يباشر رجال الدوريات الحالة بتهدئة المريض إذا كان على درجة من الانفعال، والمحافظة عليه حتى يصل الهلال الأحمر ويتم إعطاؤه مهدئات للسيطرة على وضعه، ومن ثم يتم تحويله إلى مستشفى الصحة النفسية بمرافقة أحد عناصر الدورية، ويتم إبلاغ الشؤون الاجتماعية عن الشخص من أجل دراسة حالته. وأشار إلى أن المرضى النفسيين الهائمين في الشوارع تقع مسؤوليتهم على الأسرة في المقام الأول، لذلك يجب عليها احتواء ابنها مهما كانت حالته حتى لا يكون عرضة للخطر، لأن أمثال هؤلاء بحاجة ماسة للعناية وفقا لحالتهم النفسية. الشؤون الاجتماعية: إعانة شهرية للمرضى النفسيين والأسر المحتاجة قال مساعد مدير الشؤون الاجتماعية بمنطقة مكةالمكرمة سعيد خلف الغامدي: هناك لجنة قاطني الأرصفة وتحت الكباري، وهي مكونة من الإمارة، الشؤون الاجتماعية، الصحة، الشرطة، والجوازات تعمل على البحث في مثل هذه الحالات، حيث تؤدي كل جهة دورها في ضوء تقرير طبي واجتماعي من حيث (هل هو مريض فعلا ؟ ما الأسباب التي أدت إلى وجوده في هذا الموقع ؟ وهل لديه أسرة وسكن أم لا ؟)، فإذا كان مريضا نفسيا يحال إلى مستشفى الصحة النفسية لعلاجه، فيما يتم التعامل مع الحالات الوافدة بإحالتها إلي إدارة الجوازات. وبين أن المريض النفسي يمنح 14 ألف ريال سنويا إذا تجاوز عمرة 17 سنة، فإذا كان غير قادر على العمل بعد علاجة يسجل في الضمان الاجتماعي وتصرف له مكافأة قدرها 800 ريال شهريا، فإذا اتضح أثناء البحث أن أسرته بحاجة للدعم الاجتماعي تتم إعانتها اجتماعيا من حيث تسجيلها في الضمان الاجتماعي. وعن المسؤولية تجاه هذه الفئة أوضح الغامدي أن للأسرة دورا في المحافظة على أبنائها، ووزارة الصحة تعنى بمثل هذه الحالات من الأساس، مشيرا إلى أنه يجري حاليا مناقلة مركز الإخاء من الشؤون الاجتماعية إلى وزارة الصحة ليصبح مركزا لنقاهة المرضى النفسيين. وعن ما إذا كانت هناك إحصائية بعددهم، أكد أنه لا توجد دراسة دقيقة لمعرفة أعدادهم وأسباب تخلي الأسر عنهم.